في أولها رجع السّلطان إلى مصر جريدةً وأبقى جيوشه بالشّام، فحاصروا بلاد الفرنج عسقلان وطبرية. ففُتحت طبرّية فِي صَفَر، وفُتحت عسقلان فِي جُمادى الآخرة.
وفي رجب عُزِل خطيب البلد عماد الدّين دَاوُد الآباريّ، مِن الخطابة ومِن الغزاليّة، ووليهما القاضي عماد الدين عبد الكريم ابن الحرستاني.
قال أبو المظفر: نازل فخر الدين ابن الشَّيْخ طبريّة فافتتحها، ثمّ حاصر عسقلان، وقاتل عليها قتالًا عظيمًا وأخذها فِي جُمادى الآخرة.
قلت: وانفرد بفتح هذين البلدين، وعظُم شأنه عند السلطان، ولم يبق له نظير في الأمراء.
قَالَ سعد الدّين بْن حَمُّوَيْهِ: فِي المحرَّم أخذ السلطان من السعيد ابن العزيز قلعة الصُّبَيْبة، وأُعطيَ خبز مائةٍ وخمسين بمصر ومائة ألف درهم وقيسارية جركس وخمسمائة تفصيلة.
وفيه: نفى السلطان مملوكه البُنْدُقْدار. وأضاف أجناده إلى الحلقة لكونه صعِد قلعة عجلون بلا أمر.
قلت: وفي هذه المرّة أخذ السّلطان من مماليك البُنْدُقدار بيبرس، وصار من أعيان مماليكه، وآل أمره إلى سلطنة البلاد.
قَالَ: وزار السّلطان القدس، وأمر أن يُذْرَع سُورُه، فجاء ستّة آلاف ذراع، فأمر أن يصرف مغل القدس فِي عمارة سُوره. وتصدَّق بألفي دينار في الحرم، وزار الخليل. وكان الأمير فخر الدّين نازلًا عَلَى طبريّة فنصب عليها المجانيق، فخرجوا فِي بعض اللّيالي، فقتلوا الأمير سابق الدّين الْجَزَريّ، وقتلوا سبعةً معه.
وركِبنا فِي المراكب فِي البُحَيرة لقطع المِيرة عَن طبريّة، فجاءت مراكبهم وقاتلونا ساعة، ثمّ زحفنا عَلَى القلعة من كلّ مكان، وجرح جماعة. -[359]-
قَالَ: ووقعت البدنة الّتي علّقناها من الباشورة، فزحفنا كلّنا، وهجم المسلمون الثّغرة، وجاء الفرنج بأسرهم إليها، ورموا بالحجارة، وقتلوا خلقًا كثيرًا. وصبر النّاس، وكلّما تعِب قومٌ خرجوا وجاء غيرهم إلى أن تعبت الفرنج فطلبوا الأمان، فأمّنهم الأمير عَلَى أن يكونوا أسرى. فنزلوا عَلَى ذَلِكَ، فكانوا مائتين وستّين أسيرًا.
وأخذ الأمراء خِفيةً نحو خمسين أسيرًا، وغنم النّاس طبريّة بما فيها. ووجدنا منهم فِي القلعة قتلى كثيرة وجرحى، وكان يومًا مشهودًا. وأُخربت القلعة، وقسمت على العسكر.
ورحلنا بآلات الحصار جميعها إلى عسقلان، وقد نزل عليها قبلنا الأمير شهاب الدين ابن الغَرْز، فأحاطت بِهَا العساكر، ومراكب الفرنج وشوانيهم تحتها، ومراكبنا مُرْسية عَلَى السّاحل. وهي قلعةٌ مليحة ستّة عشر برجًا، نصفها فِي البحر. فنزلنا ورمينا بالمجانيق، وجاءت مراكبهم إلى مراكبنا فاقتتلوا، وكانت ساعة مشهودة.
ثمّ هاج البحر واغتلم، واصطدم موجه فكسر شوانينا وطحنها عَلَى السّاحل، وهي خمسة وعشرون. وسلمت شواني الفرنج؛ لأنهم كانوا مرسين في وسط البحر، فأخذنا خشب الشَّواني عملناه ستائر للزَّحْف. وكمل لنا أربع عشرة منجنيقًا ترمي عَلَى القلعة، ومناجيقهم لا تَبْطُل ساعةً. وأحرقوا ستائر منجنيقين رموها بنصول زيار محمية، وكسروا لنا منجنيقين، وخرجوا وقتلوا جماعة.
وبعد أيّامٍ شرعنا فِي طمّ الخندق من النقب، وجاءهم اثنا عشر مركبًا نجدة. وكان المدد يأتيهم ويأتينا أيضًا. وخرجوا غير مرّة وقاتلوا، فزحفنا فِي عاشر جُمادى الأولى عليها من كلّ جهة، وقاتل المسلمون قتالًا عظيمًا، وملكوا الباشورة، وقُتِل نحو ستّين نفسًا، وجُرح خلق. وبتنا على خنادق القلعة، وأخذنا نقوباً في برج ديدنة.
ثُمَّ بعد يومين زحفنا عليهم. ثُمَّ أخذوا النقوب منّا، وهرب أصحابنا منها، ثُمَّ من الغد استعدْناها منهم. وفي سادس عشر الشّهر أحرقنا البرج فنقبوه من عندهم وأطفؤوا النّار. ثُمَّ تقوّر البرج من الغد، ووقع عَلَى اثني عشر فارسًا منهم، فأخرجهم أصحابنا وغنموا سَلْبهم. ثُمَّ جاءتهم سبْعُ مراكب كبار.
قَالَ: وحجر المنجنيق المغربيّ الّذي لنا وزنه قنطار ورُبع بالشّاميّ. وطال الحصار، -[360]-
وقفز غير واحد، وقفز فارسان من الفرنج، فخلع عليهما فخر الدين. وذكر أنّ الخُلْف وقع بين الإسبتار والغرب.
وانسلخت الباشورة، فمات منا تحتها ثمانية أنفس. وليلة الخميس ثاني وعشرين جُمادى الآخرة طلع أصحابنا من البرج المنقوب وملكوه وصاحوا، فضربنا الكوسات فِي اللّيل، وعَلَت الصنجات، وتكاثر النّاس، فاندهش الفرنج وخُذلِوا، وهربوا إلى المراكب وإلى الأبراج واحتموا بِهَا.
ودخل المسلمون القلعة فِي اللّيل وبذلوا السّيف، وربمّا قتل بعضهم بعضًا لكثرة العالم وظُلْمة اللّيل وللكسْب. ولم يزالوا ينقلون ذخائرها وأسلحتها طول اللّيل. ودخلها من الغد الأمير فخر الدّين، وأعطى لمن فِي الأبراج أمانًا عَلَى أنفسهم دون أموالهم. وكان فيهم ثلاثة أمراء معتبرين، وكانت الأسرى مائتين وستين أسيراً.
ووجدنا غرقى وأيدي مقطّعة فِي البحر، وسببه تعلّقهم بالمراكب للهرب، فيخاف الآخرون لا تغرق المراكب، فيضربون بالسّيوف عَلَى أيديهم يقطعونها. ثُمَّ شرعنا فِي خراب القلعة ورحلنا، وقد تركناها مأوى للبوم والغربان، ومساكن للأراوي والغزلان، فسبحان الباقي الديان.
وفيها أخذ السّلطان قلعة شُمَيْمس من الأشرف صاحب حمص، فحصنها وبعث إليها الخزائن.
وفيها جاء عسكر حلب فنازلوا حمص وحاصروها مدة، وأخذوها في سنة ست.
وفيها جاءت تذكرة بأن يُحمل إلى مصر القاضي محيي الدين ابن الزكي، وابن العماد الكاتب، وابن الحضيري، وأولاد ابن صصرى الأربعة، والشرف ابن المعتمد، وجماعة؛ لأنّهم كانوا من أصحاب الصّالح إِسْمَاعِيل، فلمّا وصلوا مصر أقاموا بحسب اختيارهم، فبقوا بِهَا إلى بعد موت الصّالح نجم الدين.
وفي ذي القعدة حبس عزّ الدّين أيبك المعظّمي فِي دار فَرُّخْشاه بتواطئ من ابن مطروح وغيره. وصنعوا مترجَمًا قد جاءه من حلب من عند الصّالح إِسْمَاعِيل، وكتبوا إلى السّلطان يخبرونه بذلك، فأمر أن يُحمل إلى القاهرة تحت الحوطة، فحُمِل وأُنزل في دار صواب، فاعتقل بها، ورافعه ولدُه وقال: أموال أَبِي قد بعثها إلى حلب. فمرض أيبك ومات بغُبنه.
ثُمَّ نُقِل في -[361]-
تابوت، ودُفن فِي قبّته الّتي عَلَى الشُّرف الأعلى.
وفيها كَانَ ببغداد غلاء عظيم، وأبيع الخبز ثلاثة أرطال بقيراط.
وفيها هرب للسّلطان نجم الدّين مماليك، فمُسِك منهم أربعون نفسًا بحلب، وأرسلوهم إلى دمشق، فشنق الأربعين عَلَى أبواب البلد.