فِي أوّلها كانت كسرة الخَوارزميّة بين حمص وبَعْلَبَكّ، وذلك أنّ الخَوارزميّة اجتمعوا عَلَى بحيرة حمص، وكتب صاحب مصر فاستمال الملك المنصور إِبْرَاهِيم، وكاتب الحلبيّين بأنّ هَؤُلاءِ الخَوارزميّة قد أخربوا الشّام والمصلحة أن نتّفق عليهم، فأجابوه. وسار شمس الدّين لؤلؤ بجيش حلب. وجمع صاحب حمص إِبْرَاهِيم التُّركُمان والعرب، وسار إليهم عسكر السّلطان الذي بدمشق. فاجتمعوا كلّهم عَلَى حمص.
واتّفق الخَوارزميّة والملك الصّالح إِسْمَاعِيل، والنّاصر دَاوُد، وعز الدّين أيبك المعظَّميّ، واجتمعوا عَلَى مَرْج الصُّفَّر. -[355]-
فأشار بَرَكَة خان بالمسير لقصدهم فسَاروا، فكان المصافّ عَلَى بُحيرة حمص فِي المحرَّم، فكانت الدّائرة عَلَى حزب إِسْمَاعِيل، وقُتِل رأس الخَوارزميّة بركة خان، وانهزم إِسْمَاعِيل وصاحب صَرْخَد والْجُنْد عرايا جياعًا. ونُهِبت أموالهم، ووصلوا إلى حوران فِي أنحس تقويم. فسَاق صاحب حمص إلى بَعْلَبَكّ فأخذ البلد وسلّمه إلى أمير، وسار الحلبيون ومعهم رأس بركة خان، فنصبت عَلَى باب حلب.
وقدِم صاحب حمص دمشقَ ونزل ببستان سامة، وذهبت طائفة كبيرة من الخَوارزميّة إلى البلقاء، فنزل إليهم النّاصر من الكَرَك وصاهَرَهُم واستخدمهم، وأطلع حريمهم إلى الصَّلْت، وكذا فعل عزّ الدّين صاحب صَرْخَد، وساروا فاستولوا عَلَى نابلس. ومرض صاحب حمص بالنَّيرْب، ومات وحمل إلى حمص.
وجهز صاحب مصر الصاحب الأمير فخر الدين ابن الشّيخ إلى الشّام بعسكر، فقدِم غزّة، فعاد من كَانَ بنابلس من الخَوارزميّة إلى الصَّلْت، فقصدهم فخر الدين فكسرهم ومزقهم. وكان النّاصر معهم ففرَّ إلى الكَرَك وتبِعَتْه الخَوارزميّة، فلم يمكّنهم من دخول الكَرَك. وأحرق ابن شيخ الشّيوخ الصّلت، وهي للنّاصر. ثمّ ساق فنازل الكَرَك. وتحصّن عزّ الدين بصرْخد. وكان يوم الوقعة المذكورة فِي ربيع الآخر.
وقيل: إنّ النّاصر كتب إلى فخر الدّين وهو مُنازِله:
غدوتُ عَلَى قيسٍ لخفْر جِواره ... لأمنع عرضي إنّ عرضي ممنَّع
وكان الأمير حسام الدّين بْن أَبِي عليّ بدمشق، فسار إلى بَعْلَبَكّ وتسلَّم قلعتها باتّفاقٍ من السّاماني مملوك الصّالح إِسْمَاعِيل، وكان واليها. وبعث عيال إسماعيل إلى مصر.
وتسلَّم نوّاب الصّالح نجم الدّين بُصْرَى، وكان بِهَا الشّهاب غازي، فأعطوه حَرَسْتا القنطرة بالمَرْج.
وفي ربيع الآخر وصل الصّالح إِسْمَاعِيل بطائفةٍ من الخَوارزميّة أميرهم كشلوخان إلى حلب، ولم يبق للصّالح مكانٌ يلجأ إِلَيْهِ، فتلقّاه صاحب حلب النّاصر يوسف فأنزله فِي دار جمال الدّين الخادم، وقبض عَلَى كشلوخان -[356]-
والخَوارزميّة وملأ بهم الحبوس. وقال الأمير شمس الدّين لؤلؤ أتابَك حلب للصّالح: أَبصِرْ عواقبَ الظلم كيف صارت؟
وفي ذي القعدة قدِم السّلطان الملك الصّالح نجم الدّين دمشق، فدخل يوم تاسع عشرة وكان يومًا مشهودًا بكثرة الخلائق والزّينة، وأحسن إلى النّاس. وأقام نصف شهر، ورحل إلى بَعْلَبَكّ فكشفها، ثمّ رجع ومضى نحو صَرْخد فتسلّمها من عزّ الدّين أيبك بعد أن نزل إلى خدمته برأي ابن العميد، فدخلها الصّالح.
ثم مضى إلى بُصْرى، وقدِم عزّ الدين أيبك دمشق، وكتب له منشورا بقرقيسيا، والمجدل، وضياعا فِي الخابور، فلم يحصل لَهُ من ذَلِكَ شيء. وتوجّه السّلطان إلى مصر، وتصدّق فِي القُدس بألفي دينار، وأمر بعمارة سُورها، وقال: اصرفوا دخل البلد في عمارة السور.
وفيها وصلت الأخبار: أنّ البابا طاغوت النَّصرانيّة غضب عَلَى الأنبرورَ وعامل خواصَّه الملازمين لَهُ عَلَى قتْله، وكانوا ثلاثة. وقال لهم: قد خرج الأنبرور عَن دين النّصرانية ومال إلى المسلمين فاقتلوه وخُذوا بلاده لكم. وأعطى أحدهم صقلية، والآخر نغفاته، والآخر بوليه. وهذه الثلاثة مملكة الأنبرور.
فكتب مناصحون للأنبرور إِلَيْهِ بذلك، فعمد إلى مملوكٍ لَهُ، فجعله مكانه عَلَى سرير المُلْك مكانه وأظهر أنّه هُوَ، وأنه قد شرب شربة، فجاء الثّلاثة يعودونه والأنبرور فِي مجلس ومعه مائة بالسّلاح.
فأمّا الثلاثة فإنهم رأوا قتل الأنبرور - لكونه ضعيفاً من الدواء - فرصة، فخطوا عَلَيْهِ، وهو مُغَطّى الوجه، بالسّكاكين فقتلوا الغلام. فخرج عليهم المائة فقبضوا عليهم، وذبحهم الأنبرور بيده وسَلَخَهم. فلمّا بلغ البابا بعث إلى قتاله جيشاً، والخلف بينهم واقع.
وفيها تسلَّم السّلطان نجم الدّين أيّوب قلعة الصبيبة من ابن عمه الملك السعيد ابن الملك العزيز. ثمّ أخذ حصن الصّلت من الناصر. -[357]-
وفيها كتب توقيع لشرف الدّين عَبْد اللَّه ابن شيخ الشيوخ بن حمويه بمشيخة خوانك دمشق مَعَ الولاية عليها والنّظر فِي وقوفها كوالده. وكتب توقيع للشيخ تاج الدين بن أبي عصرون بتدريس الشامية، فدرّس بِهَا دهرًا طويلًا، فتوجّه المذكوران إلى دمشق.
وبعث السّلطان خمسة عشر ألف دينار إلى الأمير فخر الدين ابن الشيخ إلى غزة ليستخدم بها رجاله.
وفي ربيع الأوّل قَالَ سعد الدّين الْجُوَينيّ: جاء الخبر أنّ المعظّم صاحب حصن كيفا جاءته نجدة الموصل وماردين، فضرب مصافًّا مَعَ الملك المظفّر صاحب مَيّافارِقين فكسره، وشحن عَلَى أكثر بلاده. قَالَ: وسافرت إلى مصر فسرت من الغرابيّ إلى القصير، ثم سريت جئت إلى السائح، نزلت بِهِ، وقد بنى بِهِ السّلطان نجم الدّين دُورًا وبستانًا وقرية بِهَا جامع وفنادق، وسُمّيت الصّالّحية.
قلت: وقبل ذَلِكَ إنّما كَانَ هذا المكان يعرف بالسائح.
وقبض النّاصر فِي الكَرَك عَلَى الأمير عماد الدين ابن موسك وأخذ أمواله.
وفيها ختن المستعصم بالله ولديه أَحْمَد وَعَبْد الرَّحْمَن، وأخاه عليًّا، فذكر ابن السّاعي أنّه أخرج عَلَى الخِتان نحوًا من مائة ألف دينار، فمن ذلك: ألف وخمسمائة رأس شواء.
وفيها قدِم رسولان من التّتار، أحدهما من بركة، والآخر من باجو، فاجتمعا بالوزير مؤيّد الدين ابن العلقمي، وتعمت على الناس بواطن الأمور.
وفيها تُوفّي المنصور صاحب حمص، وتملّك بعده ابنه الملك الأشرف موسى. وعاش أهل الشّام بهلاك الخَوارزميّة، وكانوا كالتّتر في الغدر والمكر والقتل والنهب.
وفيها أخذت الفرنج شاطبة صُلْحًا، ثُم أجْلوا أهلها بعد سنة عَنْهَا.