فيها جرت وقعةُ بين جلال الدِّين الخُوارزْميّ وبين التّتار، وكان بتوريز فجاءه الخبرُ أنّ التتار قد قصدوا إصبهان، فجمع عسكره، وتهيَّأ للملتقى؛ لكون أولاده وحُرَمِهِ فيها، فلمّا وصلها، وأزاح عِلل الجند بما احتاجوا، جرَّد منهم أربعة آلاف صوب الرَّيّ ودامغان يَزَكًا، فكانتِ الأخبار تَرِدُ من جهتهم وهم يتقهقرون، والتّتار يتقدَّمون، إلى أن جاءه اليَزَكُ، وأخبروه بما في عسكر التّتار من الأبطال المذكورين مثل باجي نويل، وباقو نويل، وأَسَر طَغَان، ووصلت التّتار، فنزلوا شرقيّ إصْبَهان. وكان المنجمون أشاروا على السُّلطان جلال الدِّين بمصابرتهم ثلاثة أيام، والتقائهم في اليوم الرابع، فلزِم المكان مرتقبَ اليوم الموعود، وكان أمراؤه وجيشه قد انزعجوا من التّتار، والسُّلطان يتجلَّدُ، ويظهر قوَّة، ويشجّع أصحابَه، ويُسهل الخطب، ثمّ استحلفهم أن لا يهربوا، وحَلَفَ هو، وأحضر قاضي إصْبَهانَ ورئيسها وأمرهما بعرض الرّجّالة في السِّلاح. فلمّا رأى التّتارُ تأخّرَ السُّلطان عن الخروج إليهم، ظنُّوا أنَّه امتلأ خوفًا، فجرّدوا ألفي فارس إلى الجبال يغارون ويجمعون ما يقوتهم مُدَّة الحصار، فدخلوا الجبال وتوسَّطوها، فجهز السُّلطانُ وراءهم ثلاثةَ آلاف فارس، فأخذوا عليهم المضايق والمسالك، وواقعوهم، وقتلوا فيهم وأسروا. ثمّ خرج في اليوم الموعود، وعبَّى جيشه للمصافّ، فلمّا تراءى الجمعان خذله أخوه غياث الدِّين وفارقه بعسكره، فتبِعه جَهان بهلوان، لوحشةٍ حدثت له ذلك -[642]- الوَقْت، وتغافلَ السُّلطان عنه، ووقف التّتار كراديس متفرّقة مترادفة، فلمّا حاذاهم جلالُ الدِّين أمر رجَّاله إصْبَهان بالعَوْدِ، ورأى عسكره كثيرًا، وتباعدَ ما بين ميمنة السُّلطان وميسرته حَتّى لم تعرف الواحدة منهما ما حالُ الأخرى، فحملت ميمنتُه على مَيْسَرة التّتار هزمتها، وفعلت ميسرتُه. فلمّا أمسى السُّلطانُ، ورأى انهزامَ التّتار نزل، فأتاه أحدُ أمرائه وقال له: قد تمنيّنا دهرًا نُرزق فيه يومًا نفرحُ فيه، فما حصل لنا مثلُ هذا اليوم وأنت جالسٌ، فلم يزل به حَتّى رَكِبَ وعَبَرَ الْجُرف، وكان آخِرَ النّهار، فلمّا شاهد التّتار السّواد الأعظم، تجرّد جماعةٌ من شجعانهم، وكَمَنُوا لهم، وخرجوا وقت المغرب على ميسرة السُّلطان كالسَّيل وحملوا حملةً واحدة، فزالت الأقدام، وانهزموا، وقتل من الأمراء ألب خان، وأُرتق خان، وكوج خان، وبولق خان، وماج الفريقان، وحمي الوطيسُ واشتدّ القتال، وأُسر علاءُ الدَّولة آناخان صاحب يزد، ووقف السُّلطان في القلب وقد تبدَّد نظامُه، وتفرّقت أعلامُه، وأحاط به التّتار، وصار المخلص من شدَّة الاختلاط أضيقَ من سَمِّ الخِياط، ولم يبق معه إلّا أربعة عشر نفسًا من خواصّ مماليكه، فانهزم على حميّة، فطعن لولا الأجلُ لهلك. ثمّ أفرج له الطّريق، وخلص من المضيق، ثمّ إنّ القلب والميسرة تمزّقت في الأقطار، فمنهم من وقع إلى فارس، ومنهم من وصل كِرمان، ومنهم من قصد تبريز.
وعادت الميمنة بعد يومين، فلم نسمع بمثله مصافًّا لانهزام كِلا الفريقين، وذلك في الثّاني والعشرين من رمضان. ثمّ لجأ السُّلطانُ إلى إصْبَهان، وتحصَّن بها، فلم تصل التّتار إليه، وحاصروا إصْبَهان، ورَدّوا إلى خُراسان.
قال ابنُ الأَثير: وفي هذه السّنةِ قتل الإسماعليّة أميرًا كَانَ جلالُ الدِّين خُوارزم شاه قد أقطعه مدينة كَنْجَة، وكان نِعْمَ الأميرُ يُنكر على جلال الدِّين ما يفعلُه عسكرُه من النَّهب والشَّر، فَعَظُمَ قَتلُه على جلال الدِّين واشتدّ عليه، فسار بعساكره إلى بلاد الإسماعليّة من حدود الألموت إلى كردكوه بخراسان، فخرّب -[643]- الجميعَ، وقتل أهلَها، وسبي، ونهبَ، واسترقّ الأولادَ، وقتل الرجالَ وكان قد عظُم شرُّهم، وزاد ضررُهم، فكفّ عادِيتَهم، ولقّاهم الله بما عَمِلُوا بالمسلمين. ثمّ سار إلى التّتار وحاربهم وهزمهم، وقتل وأسر، ثمّ تجمّعوا له وقصدوه.
وفيها سارت عساكر الملك الأشرف مع الحاجب حسام الدّين عليّ إلى خويّ بمكاتبةٍ من أهلها، فافتتحها، ثمّ افتتح مرمد، وقويت شوكتُه.
قال ابن الأَثير: لو داموا لملكوا تلك النّاحية، إنّما عادوا إلى خِلَاط، واستصحبوا معهم زوجة جلال الدِّين خُوارزم شاه، وهي ابنةُ السُّلطان طُغريل بن أرسلان السُّلجوقيّ، وكان قد تزوّج بها بعد أزبك بن البهلوان، فأهملها، ولم يلتفت إليها، فخافته مع ما حُرمَتُهُ من الأمر والنَّهي، وكاتبتِ الحسامَ عليًّا المذكور تطلبه لتسلّم إليه البلاد.
وكان بدمشق في سنة أربع أربعُ قضاةٍ؛ شافعيّان وحنفيّان: الخوييّ قاضي القضاة، ونائبه نجم الدّين ابن خَلَف، وشرف الدِّين عبد الوهَّاب الحنفيّ، والعزيز ابن السنجاريّ.
وشنق ابن السّقلاطونيّ نفسَهُ بسبب مالٍ عليه للدّولة، طُولِبَ به، وكان عدلًا مِن نيّف وأربعين سنة من شهود شرف الدّين ابن عصرون.
وفيها أحضر البكريّ المحتسب، الجمال ابن الحافظ، والشَّرف الإرْبِلِّيّ، والبِرْزَاليُّ، وقرّر معهم أن يُرتّبوا " مُسْند أحمد " على الأبواب، وقرّر للجمال في الشّهر خمسين دِرهمًا، وللآخرين ستّين درهمًا، وبذل لهم الوَرَق وأجره النّسّاخ، فما أظنّه تمّ هذا.
ومرض الملك المعظم، فتصدّق وأخرج المسجونين، وأعطى الأشرافَ ألف غِرارة، وفرَّقوا على الفقهاء والصّوفيَّة وغيرهم ثمانين ألفاً وخمسمائة غِرارة. وحَلَفَ مَنْ بالحضرة لولده النّاصر. واشترى ابن زُويزان حصانًا أصفر للمعظَّم بألف دينار مصريَّة، وأحضرها، فأمر بالتّصدُّق بها بالمُصلَّى، فازدحم الخلْق لذلك، فمات ثمانية أنفُس. ثمّ مات المعظّمُ في آخر ذي القعدة عن تسعٍ وأربعين سنة. وأوصى أنْ يغسّله الحَصِيريّ. مات قبلَ صلاة الجمعة. ورمى -[644]- ابنُه الكَلْوتة والمماليكُ، ولَطَمُوا في الأسواق، وقرأ النَّجيبُ في العزاء: " {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خليفةً في الأرض} " فضجّ النّاس.
وقال أبو شامة: فيها قَدِمَ رسول الأَنْبُرور ملك الفرنج من البحر، على المعظَّم - بعد اجتماعه بأخيه الكاملِ - يطلب البلادَ التي فتحها السّلطان صلاح الدّين، فأغلظ له وقال له: قُلْ لصاحبك ما أنا مثل الغَيْر، ما له عندي إلاّ السّيف.
وفيها حجّ بالشّاميّين شجاع الدّين عليّ ابن السّلَّار؛ وهي آخرُ إمرته على الركّب، وانقطع بعدَها ركبُ الشّام مُدَّة بسبب الفِتَن. وكان قد جاء من مَيَّافَارْقِين سلطانُها شهابُ الدِّين غازي ابن العادل، لِيحجَّ أيضًا.
قال أبو المُظفَّر: كَانَ ثَقَلُه على ستّمائةِ جَمَل، ومعه خمسون هَجينًا عليها خمسون مملوكًا، وسار على الرَّحْبَة وعَانَة وكُبَيْسات إلى كَرْبلاء إلى الكُوفة. فبعث الخليفة له فَرَسَيْن وبغلةً وألفي دينار، فلما عاد لم يصل الكوفة، بل سار غربيَّ الطريق فكاد يَهْلَكُ هو ومَنْ معه عطشًا حَتّى وصل إلى حرَّان.
وتُوُفّي الملك المعظَّم وقام بعدَه ابنُه النّاصر داود.