فيها قدم محيي الدّين يوسف ابن الجوزيّ بالخِلَعِ والتّقاليد من الظّاهر بأمر الله إلى المُعَظَّمِ والكاملِ والأشرف.
قال أبو المُظَّفْر سِبْطُ الجوزيّ: قال لي المعظَّم: قال لي خالك: المصلحة رجوعك من هذا الخارجيّ - يعني: جلال الدِّين - إلى إخوتك، ونُصْلِحُ بينكم، وكان المعظّم قد بعث مملوكه إيدكين إلى السُّلطان جلال الدِّين، فرحَّلَه من تفليس وأنزله على خلاط، والأشرف حينئذٍ بحرَّان، قال: فقلتُ لخالك: إذا رجعتُ عن جلال الدِّين، وقصدني إخوتي تُنجدوني؟ قال: نعم، قلتُ: ما لكم عادةً تُنْجِدُون أحدًا هذه كتبُ الخليفة عندنا ونحن على دِمياط، ونحن نكتب إليه نستصرخ به ونقول: أنجِدونا، فيجيء الجوابُ بأنْ قد كتبنا إلى ملوك الجزيرة، ولم يفعلوا، وقد اتّفق إخوتي عليّ، وقد أنزلت الخُوارِزْميّ على خلاط، إنْ قصَدني الأشرف منعه الخُوارِزْميّ، وإنْ قصدني الكاملُ كَانَ فيَّ له.
وفيها قَدِمَ الأشرف دمشق، وأطاع المعظَّم، وسأله أن يسأل جلالَ الدِّين أن يرحل عن خِلَاطَ، وكان قد أقام عليها أربعين يومًا، فبعث المعظَّمُ، فرحل الخُوارزْميّ عن خِلَاط، وكان المعظّم يَلْبَسُ خِلعَة الخُوارزْميّ، ويركب فرسَه، وإذا حادث الأشرف، حلف برأس خُوارزم شاه جلال الدّين، فيتألّم الأشرف، وتوجّه خالي إلى الملك الكامل.
وقال ابن الأثير: في جمادى الآخرة جاء جلال الدِّين الخبرُ أن نائبه بكِرْمان قد عصى عليه، وطَمِعَ في تملُّك ناحيته؛ لاشتغال السُّلطان بحرب الكُرْج وبُعْدِه، فسار السُّلطان جلال الدِّين يطْوي الأرض إلى كرمان، وقدَّم بين يديه رسولًا إلى متولّي كِرمان بالخِلَع ليطمّنه، فلمّا جاءه الرسولُ، علم أنّ ذلك مكيدةٌ لخبرته بجلال الدِّين، فتحوَّل إلى قلعةٍ منيعةٍ، وتحصّن، وأرسل يقول: -[638]- أنا العبدُ المملوك، ولمّا سمعتُ بمسيرك إلى البلاد أخليتُها لك، ولو علمتُ أنّك تُبقي عليَّ؛ لحضرتُ إلى الخِدمة، فلمّا عرف جلالُ الدِّين، عَلِمَ أنَّه لا يُمكنه أخذُ ما بيده من الحصون؛ لأنّه يحتاج إلى تعبٍ وحصار، فنزل بقرب إصبَهان، وأرسل إليه الخِلَعَ، وأقرَّه على ولايته، فبينما هو كذلك، إذ وصل الخبرُ من تفليسَ بأنّ عسكر الأشرف الّذي بخلاطَ قد هَزَمُوا بعضَ عسكره، فساق كعادته يطوي المراحِلَ حَتّى نازل مدينة مَنَازْكَرْد في آخر السّنة، ثمّ رحل من جُمعته، فنازل خِلاط، فقاتل أهلَها قتالا شديدًا، ووصل عسكَرُهُ إلى السور، وقُتِلَ خلْق من الفريقين، ثمّ زحف ثانيًا وثالثًا، وعَظُمَتْ نِكايةُ عسكره في أهل خِلاطَ، ودخلوا الرَّبَضَ، وشرعوا في السَّبْي والنَّهْب، فلمّا رأى ذلك أهلُ خلاط تناخوا، وأخرجوهم، ثمّ أقام يحاصرها، حَتّى كَثُرَ البردُ والثّلج، فرحل عندما بلغه إفسادُ التُّركمان في بلاد أَذْرَبَيْجَان، وجدَّ في السِّير، فلم يَرْعَهُمْ إلّا والجيوشُ قد أحاطت بهم، فأخذتهم السّيوفُ، وكثُر فيهم النَّهبُ، والسَّبْي.
وفي شعبان سار علاء الدِّين كَيْقُبَاذ ملك الرّوم، فأخذ عدّة حصون للملك المسعود صاحب آمد.
وفيها جمع البرِنْسُ صاحبُ أنطاكية جموعَه، وقصد الأرمن، فمات ملكُ الأرمن قبلَ وصوله، ولم يُخلف ولدًا ذكرًا، فملّك الأرمنُ بنته عليهم، وزوَّجوها بابن البرِنْسِ، وسكن عندهم، ثمّ ندمت الأرمنُ، وخافوا أن تستوليَ الفرنج على قِلاعهم وبلادهم، فقبضوا على ابن البِرِنْس وسجنُوه، فسارَ أبوهُ لحربهم، فلم يَحْصُلْ له غرضٌ فرجع.
قال ابنُ الأَثير: وفيها اصطاد صديقٌ لنا أرنبًا ولها أُنثيان وذَكَر، وله فَرْج أنثى، فلمّا شقُّوا بطنه رأوا فيه جروين، سمعتُ هذا منه ومِنْ جماعة كانوا معه، وقالوا: ما زلنا نَسْمَعُ أن الأرنبَ تكون سنةً ذكرًا، وسنةً أنثى، ولا -[639]- نُصَدِّقُ، فلمّا رأينا هذا، علِمنا أنَّه قد حَمَل وهو أنثى، وأنقضت السّنةُ فصار ذَكَرًا، ويحتمل أن يكون خنثى.
قال ابن الأَثير: وكنتُ بالجزيرة ولنا جارٌ له بنتُ، اسمُها صَفيَّة، فبقيت كذلك نحو خمس عشرة سنة، وإذا قد طلع لها ذَكَرُ رجلٍ، ونبتت لحيتُه، فكان له فَرْج امرأة وذكر رَجلٍ.
قال: وفيها ذبح إنسانٌ بالمَوْصِل رأسَ غنم، فإذا لحمُه ورأسُه ومعلاقه مرٌّ شديد المرارة، وهذا شيء لم يسمع بمثله.
وفي ذي الحِجَّة زُلْزِلت المَوْصِل، وغيرُها، وخُرِبَ أكثر شَهْرَزُورَ، لا سيما القلعة، فإنّها أجحفت بها، وبقيت الزّلزلةُ تتردّد عليهم نَيْفًا وثلاثين يوماً، وخرب أكثر قرى تلك الناحية.
وفي هذه السّنة انخسف القمر مرّتين.
وفيها برد ماء عينِ القيَّارة حَتّى كَانَ السّابح يجد البرد، فتركوها، وهي معروفةٌ بحرارة الماء، بحيث إنّ السّابح فيها يجد الكرْبَ، وكان بردها في هذه السّنة من العجائب.
وفيها كثرت الذّئابُ، والخنازيرُ، والحيّات، وقُتِلَ كثير منها.
وفيها كَانَ قحطٌ وجراد كثير بالمَوْصِل، وجاء بردٌ كِبار أفْسد الزّرعَ والمواشي، قيل: كَانَ وزنُ البَرَدَة مائتي درهم، وقيل: رطلًا بالمَوْصِليّ.
وفي رجب تُوُفّي أميرُ المؤمنين الظّاهر بأمر الله، وكانت خلافته تسعة أشهر ونصفاً.
وبويع ابنه الأكبر أبو جعفر المستنصر بالله، فبايعه جميع إخوته وبنو عمّه.
قال ابن السّاعي: حضرتُ بيعته العامَّة، فلمّا رفعت السّتارة، شاهدته وقد كمّل الله صورتَه ومعناه، وعمرُه إذ ذاك خمسٌ وثلاثون سنة، وكان أبيضَ مُشْربًا حُمْرة، أزجَّ الحاجبين، أدعجَ العينين، سهلَ الخدَّين، أقنى، رَحْبَ -[640]- الصدرِ، عليه قميص أبيضُ، وبقيار أبيض مسكّن، عليه طرحةُ قصب بيضاء، ولم يزل جالسًا إلى أن أذن الظهر ثم جلس أنْ أُذِّنَ الظُّهْر، ثمّ جلس كذلك يومَ الأحد ويومَ الإثنين، وأُحْضِر بين يدي الشبّاك شمس الدّين أحمد ابن النّاقد، وقاضي القضاة أبو صالح الْجِيليّ، فرقيا المنبرَ، فقال الوزير مؤيّد الدِّين القُمِّيّ لقاضي القضاة: أميرُ المؤمنين قد وكَّلَ أبا الأزهر أحمد هذا وكالةً جامعة في كُلّ ما يتجدَّد من بيعٍ وإقرار وعِتْق وابتياع.
فقال القاضي: أهكذا يا أميرَ المؤمنين؟ فقال: نعم، فقال القاضي: ولَّيتني يا أميرَ المؤمنين ما ولّاني والدُك رحمة الله عليه؟ فقال: نعم، ولّيتُك ما ولّاك والدي، فنزلا، وأثبت القاضي الوكالة بعلمه.
وفي شعبان قَدِمَ الصَّاحبُ ضياءُ الدِّين نصرُ الله ابنُ الأَثير رسولًا عن صاحب المَوْصل بدر الدِّين، فأورد الرسالة وهذه نسختها: ما لّيل والنّهارِ لا يعتذِرَانِ وقد عَظُمَ حادثهما، وما لِلشّمس والقمرِ لا ينكسِفان وقد فُقِدَ ثالثُهما.
فيا وحشة الدُّنيا وكانت أنيسةً ... ووحدة من فيها لمصرع واحِدِ
وهو سيِّدنا، ومولانا، الإمامُ الظّاهر أمير المؤمنين، الّذي جُعِلَتْ ولايته رحمةً للعالمين، واختير من أرومةِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ الّذي هو سيّد ولدِ آدم، ثمّ ذكر فصلًا.
قال ابن السّاعي: وخُلِعَتِ الخِلع، فبلغني أنّ عِدّتها ثلاثة آلاف خلعة وخمسُمائة ونيّف وسبعون خِلعة، وركب الخليفة ظاهرًا لِصلاة الجمعة بجامع القصر، وركب ظاهرًا يوم الاثنين الآتي في دِجلة بأبَّهَةِ الخلافة، ثمّ ركب والنّاس كافَّةً مُشاة، ووراءه الشَّمْسَةُ، والألوية المُذهّبة، والقِصَعُ تضرب وراء السّلاحيَّة، فقصد السُرادقَ الّذي ضرب له، ونزل به ساعة، ثمّ ركب وعاد في طريقه.
وفيها التقى جلالُ الدِّين ملكُ الخُوارزْميَّة الكُرْجَ، وكانوا في جمعٍ عظيم إلى الغاية، فكسرهم، وأمر عسكره، أن لا يُبقوا على أحدٍ، فتتبّعوا المنهزمين، -[641]- ولم يزالوا يستقصون في طلب الكُرج إلى أن كادوا يُفنونهم. ثمّ نازل تفليسَ وأخذها عَنوةً؛ وكانت دارَ مَلِكِ الكُرج، وقد أخذوها من المسلمين من سنة خمس عشرة وخمسمائة، وخرّبوا البلاد، وقهروا العباد، فاستأصلهم الله في هذا الوَقْت، " ولكلّ أجلٍ كتاب ".