في صَفَر جاء منشورُ الولاية من الملكِ الكامل لابن أخيه الملك النّاصر داود.
وتَحَرَّكَت الفرنج وانبثّوا في السَّواحلِ، لأنَّ الهُدنة فرغت.
وفيها أغارَ المسلمونَ على أعمال صور، وغنِموا كثيراً من المواشي.
وفيها نَزَلَ الملكُ العزيز عثمانُ ابن العادل على بَعْلَبَكّ ليأخذها من -[645]- الملك الأَمْجَد، فأرسلَ إليه النّاصر داودُ يأمرُه بالرَّحيل عنها، فرحلَ، وقد حَقَد على النّاصر، فقالوا: إنَّه كاتبَ الملكَ الكاملَ، وحَثَّهُ على قَصْدِ دمشق، وإنّها في يده. فَقَدِمَ الكامل وانضاف إليه العزيزُ، وجاءه الملك المجاهد أسدُ الدِّين شيركوه من حمص، وكانت عنده ضَغِينة على المُعَظَّم، لكونِهِ نازلَ حِمْص وشعث ظاهرَها. فاستنجَدَ الملكُ النّاصر بعمّه الملكِ الأشرف، فجاءَ وأكرمه غاية الإكرام، ونزل بالنَّيْرب. وكانَ رسوله إلى الأشرف فخرَ الدِّين ابن بُصَاقة.
ولَمّا وصل الكاملُ إلى الغَوْر، بلغَهُ قدوم الأشرف، فرجَعَ إلى غَزَّة، وقال: أنا ما خرجت على أنْ أقاتلَ أخي. فبلغَ ذلك الأشرف، فقال لابن أخيه النّاصر: إنّ أخي قد رَجَع حَرْدان، والمَصْلَحة أنّني ألحقه وأسترضيه. فنزل الكاملُ غَزَّة، وأرسل إليه ملك الفرنج يطلب منه القُدس، وقال: أنا قد حضرت أُنجدك بمقتضى مراسلتك، ومعي عساكر عظيمة، فكيفَ أرجع بلا شيء؟ فأعطاه بعض القدس.
وسار الأشرف إلى الكامل واجتمعَ به في القدس، فكان نجدة على النّاصر لا له. واتّفق الأَخَوان على أخذ البلاد من النّاصر، وأنَّ دمشق تكون للأشرف، وانضاف إليهما من عسكر النّاصر أخوهُما الملك الصّالح إسماعيل، وابنُ عمّ النّاصر شهابُ الدِّين محمود ابن المُغيث، وعزّ الدِّين أيدمر، وكريم الدِّين الخِلاطيّ. وجاء المظفَّر شهاب الدِّين غازي ابن العادل، فاجتمع الكلّ بفلسطين.
وقد كان النّاصر خرج ليتلقّي عَمّه الكامل، واعتقد أنّ الأشرف قد أصلح أمره عنده، فسارَ إلى الغَوْر، فلمّا سمع باجتماع أَعمامه عليه ليمسكوه رجَع إلى دمشق فحصّنها، واستعدّ للحصار.
وفيها عُزِلَ الصَّدر البكري عن مشيخة الشيوخ وعن حِسْبَة دمشق؛ فولِي المشيخةَ عمادُ الدِّين ابن حمويه، والحسبة رشيد الدّين ابن الهادي.
وفيها نزل جلال الدِّين ابن خُوارزم شاه مرَّة ثانية على خِلاط، ثمّ هَجَم -[646]- عليه الشّتاءُ، فَتَرَحَّل إلى أَذْرَبَيْجَان. وخرجَ الحاجب عليٌّ من خِلاط فاستولى على خُوَيّ وسَلَماس وتلك النَّاحية، وساقَ فأخذَ خزائن جلال الدِّين وعائلته وعاد إلى خِلاط، فقيل له: أيشٍ فعلت؟ تَحَرَّشت به ليُهلِكَ البلاد فلم تفكر.
وفيها جرى الكُوَيْز الساعي من واسط إلى بغداد في يومٍ وليلة، ووصل إلى باب سور البَصَليَّة قبل الغُروب بساعة، ورُزِقَ قَبولًا عظيمًا، وأُعْطِي خِلَعًا وأموالًا من الدَّولة والتّجّار. ومن جملة ما حَصَل له نَيّف وعشرون فرساً، وقماش بألفٍ وسبعمائة دينار، ومن الذهب خمسة آلاف وأربعمائة دينار، واسمُه معتوق المَوْصِليّ. ولازم خدمة الشَّرابيّ. ذكر هذا ابن السّاعي.
وفيها شرعوا في أساس المُستنصريَّة ببغداد، وكان مكانَها إصطبلاتٌ وأبنيةٌ، وتولى عِمَارَتُها أستاذُ دارِ الخلافة.
وفيها - وقيل: في التي قبلها كما تقدم بعبارةٍ أخرى - عادت التّتارُ إلى الرَّيّ، وجرى بينهم وبين جلال الدّين حروبٌ. وكان هؤلاء التّتار قد سخط عليهم جِنكزخان وأبعدَهم، وطرد مقدَّمهم، فقصد خُراسانَ، فرآها خرابًا، فقصد الرَّيّ ليتغلَّبَ على تلك النواحي، فالتقى هو وجلال الدِّين، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، ثمّ انهزم جلالُ الدِّين، ثمّ عاود بمن انهزم، وقصد إصْبَهان، وأقام بينَها وبينَ الرَّيّ، وجمع جيشه، وأتاه ابن أتابَك سعدٍ بعد وفاة والده. ثمّ عاد جلال الدِّين، فضرب مع التّتار رأسًا، فبينما هُمْ مصطفّون انفرد غياثُ الدِّين أخو السُّلطان، وقصد ناحية، فظنّهم التّتار يُريدون أن يأتوهم مِن ورائهم، فانهزموا، وتبِعهم صاحبُ بلاد فارس.
وأما جلالُ الدِّين، فإنَّه لَمّا رأى مفارقة أخيه له، ظنَّ أنّ التّتر قد رجعوا خديعةً ليستدرجوه، فانهزم أيضًا، ولم يجسر أن يدخل إصْبَهان خوفًا من الحصار، فمضى إلى شُبرم.
وأمّا صاحب فارس، فلمّا ساق وراء التّتار، وأبعد ولم يَرَ جلال الدّين -[647]- خاف ورَدّ عن التّتار، ورأى التّترُ أنَّه لا يطلُبهم أحدٌ فوقفوا، وردُّوا إلى إصْبَهَان وحاصروها، وظنُّوا أنّ جلال الدِّين قد عُدِمَ، فبينما هُم كذلك، إذ وصل إليهم قاصدٌ من جلال الدِّين يُعرِّفهم بأنَّه سالم، وأنّه يجمع، ويُنجد أهل إصْبَهان، ففرح أهلُ البلد، وقويت نفوسُهم، وفيهم شجاعة طبعيَّة، فقَدِمَ عليهم، ودخل إليهم، ثمّ خَرَج بهم، فالتقوا التّتارَ، فانهزم التّتارَ أقبح هزيمةٍ، فساق جلال الدِّين وراءَهم إلى الرَّيّ قتلًا وأسرًا، وأقام بالرَّيّ، فأتته رُسُل ابن جنكزخان يقول: إنّ هؤلاء ليسوا من أصحابي، وإنّما نحن أبعدناهم، فاطمأنّ جلالُ الدِّين من جانب ابن جنكزخان، وعاد إلى أَذْرَبَيْجَان.
وأما غياث الدِّين أخوه، فَقَصَد خوزستان، فلم يُمكّنْهُ نائبُ الخليفةِ من دخولها، فقصد بلادَ الإسماعيليَّة، والتجأ إليهم، واستجارَ بهم. فقصد جلالُ الدِّين بلاد الإسماعيلية لِينهبها إنْ لمْ يُسلّموا إليه أخاه، فأرسل مقدَّمُهم يقول: لا يجوز لنا أنّ نُسلِّمه إليك، لكن نحن نُنزله عندنا، ولا نمكِّنه أنْ يقصِدَ شيئًا من بلادك، والضّمان علينا. فأجابهم إلى ذلك، وعاد فنازل خلاط.
وفيها تملَّك علاء الدِّين كيقُباذ صاحبُ الروم مدينة أرزنكان، وكان صاحبُها بِهرام شاه قد طال ملكه لها، وجاوز ستّين سنةً، فمات، ولم يزل في طاعة قَلِج أرسلان وأولادِه، فملك بعدَه ولدُه علاء الدِّين داود شاه، فأرسل إليه كيقُباذ يطلب منه عسكرًا ليسير معه إلى مدينة أرزن الروم، ليحاصرها، وأن يكون معهم، فأتاه في عسكره، فقبض عليه، وأخذ بلده. وكان له حصن كماخ، وله فيه والٍ فتهدّده إن لم يُسلّم الحصن أيضًا، فأرسل إلى نائبه، فسلَّم الحصن، فلمّا سمع صاحبُ أرزن، وهو ابن عمّ كيّقُباذ أنَّه يقصِدُه، استنجدَ بالأمير حُسام الدِّين عليّ الحاجب نائب الملك الأشرف على خِلاط، فسار الحسامُ ونجده، فردَّ كَيقُباذ لذلك؛ ولأنّ العدوَّ أخذوا له حصن صمصون وهو مطلٌّ على البحر عاصٍ، فأتاه واستعاده منهم، ثمّ أتى أنطاكية يشتّي بها.
وفيها ظهر محضر للعناكيّين أثبت على نجم الدِّين مُهنَّا قاضي المدينة أنّ حَكَّام بن حَكم بن يوسُف بن جعفر بن إبراهيم بن مُحَمَّد الممدوح بن عبد الله الجواد بن جعفر الطّيّار سكن بقريةٍ بالشّام تُعرف بالأعناك، وأولد بها، وعَقِبُه بها، وبالشّام، ومن نسله فلان وساق نسبه إلى حكام. -[648]-
وتقرّر بالمسماريّة بنو المنجّا للتدريس بحكم أنّ نظرها إليهم.
وتقدّم الخُوَيّي إلى المُفتين بأن لا يكتبوا فتوى إلاّ بإذنه.
وفيها طلع الفِرنجُ من البحر وعكّا إلى صيدا؛ وكانت مناصفةً لهم وللمسلمين، فاستولَوْا عليها وحصَّنُوها، وتمَّ لهم ذلك، وقويت شوكتُهم، وجاءهم الأنبرور ملك الألمان ومعناه: ملك الأمراء؛ وكان قُبيل مجيئه قد استولى على قبرص، وقَدِمَ عكَّة، وارتاع المسلمون لذلك. وقَدِمَ الكامل كما مرَّ مِن مصر، وأقام على تَلِّ العجول، ثمّ كاتبَ الأنبرور، واتّفق معه على النّاصر داود ابن المعظَّم، ونشب الكامل بالكلام، ولم تكن عساكر الأنبرور وصلت إلى البحر، وخافه المسلمون، وملوكُ الفرنج بالسّاحل، فكاتبوا الكاملَ إذا حصل مصافُّ نمسك الأنبرور، فسيَّر إلى الأنبرور كتبهم، وأوقفه عليها، فعرف الأنبرور ذلك للكامل، وأجابه إلى كُلّ ما يُريد، وقدِمت رسُلُه على الكامل يتشكَّرَ لِما أَوْلاه، وتردَّدت بينهم المراسلاتُ. وسيَّر الأنبرور إلى الكامل يتلطَّف معه، ويقول: أنا عتيقُك وأسيرُك، وأنت تعلم أنّي أكبرُ ملوك البحر، وأنت كاتبتني بالمجيء، وقد علم البابا وسائرُ ملوك البحر باهتمامي وطلوعي، فإنْ أنا رجعت خائبًا، انكسرت حرمتي بينهم، وهذه القدس فهي أصل اعتقادهم وحجِّهم؛ والمسلمون قد أخربوها، وليس لها دخلٌ طائل، فإن رأى السُّلطانُ - أعزَّه الله - أنّ ينعم عليّ بقصبة البلد، والزيارة تكون صَدَقَة منه، وترتفعُ رأسي بين الملوك، وإن شاء السُّلطان أنّ يكشِفَ عن محصولها، وأحمل أنا مقدارَه إلى خزانته فعلتُ. فلمّا سَمِعَ الكاملُ ذلك، مالت نفسُه وجاوبه أجوبةً مغلّظة، والمعنى فيها نعم.
أنبأني ابن البزُوريّ، قال: وفي المحرّم منها استُدْعِي الأمير علاء -[649]- الدِّين الدُّويدارُ الظاهري أبو شجاع ألْطَبْرَسْ، وخُلِعَتْ عليه خِلعةُ الزَعامة وهي: قُباء أطلس نفطيّ، وشَرَبوشُ كبير، وفَرَس بعُدَّة كاملة، وأُلحِقَ بالزّعماء.
قال: وفيها وصل قاضي الرَّيّ رسولًا مِن عند جلال الدّين منكوبريّ ابن خوارزم شاه.
وفيها عقد عُقِدَ علاءِ الدِّين الدويدار المذكور على ابنة بدر الدِّين صاحب المَوْصِل، على صداقٍ مبلغُه عشرون ألف دينار.
وفيها قَدِمَ بغداد من الحُجّاج أختُ السُّلطان صلاح الدِّين يوسُف، زوجة مظفّر الدِّين صاحب إِرْبِل؛ وابنُ أخيها الملك المُحسن أحمد، فَخُلِعَ على المحسن.
وفي رمضان خُلِعَ على علاء الدِّين الدُّوَيدار خلعة عظيمة، وأعطي تسعة أحمال كوسات.
وفيها تغلّب ابن هود على معظم الأندلسِ، فكان مُلْكه تسعةَ أعوام.