فيها عَصَى قُطْب الدّين سنجر النّاصريّ بتُسْتَر بعد موت طاشتكين أمير الحاجّ وهو حموه، فأرسل إِلَيْهِ الخليفة النّاصر عزّ الدّين نجاح الشّرابيّ، والوزير مؤيَّد الدّين القمّيّ نائب الوزارة، فلمّا قربوا من ششتر هرب سنجر بأمواله وأهله إِلى صاحب شيراز أتابك موسى، فحلف لَهُ أن لا يسلمه، ثُمَّ غدر بِهِ وأسره وأخذ أمواله وفسقَ بنسائه، ثُمَّ بعثَهُ مقيداً، فأدخل بغداد على بغل.
وفيها أظهر النّاصر لدين الله الإِجازة الّتي أُخذت لَهُ من الشّيوخ، وخَرَّجَ عنهم جزءًا أو خُرِّجَ لَهُ، وهو المسمَّى بـ " روح العارفين "، وأجازَهُ للأكابر، فكتبَ: " أجزْنا لهم ما سألوا عَلَى شرط الإِجازة الصّحيحة، وكتبَ العبد الفقير إِلى الله أَبُو العَبَّاس أَحْمَد أمير المؤمنين ". وسلمت إجازة الشافعية إِلى الإِمام ضياء الدّين عَبْد الوَهّاب بْن سُكَيْنَة المُتَوَفَّى في هذه السّنة، وإجازة الحنفيَّة إِلى ضياء الدّين أَحْمَد بْن مسعود التُركستانيّ، وإجازة الحنبليَّة إِلى عماد الدّين نصر بْن عَبْد الرّزّاق الجيليّ، وإجازة المالكيَّة إِلى تقيّ الدين علي بن جابر المغربي التاجر.
وفيها، قَالَ أَبُو المظفّر سِبط ابن الجوزيّ: خرجتُ من دمشق بِنيَّة الغزاة إِلى نابلس، وكان المَلِك المعظَّم بها، فجلستُ بجامع دمشق في ربيع -[22]- الأوّل، فكان النّاس من مشهد زين العابدين إِلى بَاب النّاطفيّين، وكان القيام في الصَّحن أكثر، وحُزِروا بثلاثين ألفًا، وكان يومًا لم يُرَ بدمشق ولا بغيرها مثله. وكان قد اجتمع عندي شعور كثيرة من التّائبين، وكنتُ وقفت عَلَى حكاية أَبِي قُدامة الشَّاميّ مَعَ تِلْكَ المرأة التي قطعت شعرها وقالت: اجعلْه قَيدًا لفرسك في سبيل الله، فعملتُ من الّتي اجتمعت عندي شكلًا لخيل المجاهدين وكرفسارات، فأمرت بإحضارها على الأعناق، فكانت ثلاثمائة شكال، فلمّا رآها النّاس ضجّوا ضجَّةً عظيمة وقطعوا مثلها، وقامت القيامة، وكان المعتمد والي دمشق حاضرًا، وقامَ فجمعَ الأعيان. فلمّا نزلتُ من المنبر قام يطرق لي، ومشى بين يديَّ إِلى بَابُ النّاطفيّين، فتقدَّم إِلى فرسي فأمسكَ بركابي، وخرجنا من بَابُ الفرج إِلى المُصَلَّى، وجميع مَن كَانَ بالجامع بين يديَّ، وسرنا إِلى الكسوة ومعنا خلقٌ مثل التّراب، فكان من قرية زملكا فقط نحو ثلاثمائة رَجُل بالعُدد والسّلاح، ومن غيرها خلق خرجوا احتسابًا. وجئنا إِلى عَقَبة فِيق والوقت مخوف من الفرنج، فأتينا نابلس، وخرج المُعَظّم فالتقانا وفرح بنا، وجلستُ بجامع نابلس، وأحضرت الشّعور، فأخذها المعظم، وجعلها على وجهه وبكى، ولم أكن اجتمعت به قبل ذلك اليوم، فخدمنا وخرجنا نحو بلاد الفرنج، فأخربنا وهَدّمنا وأسرنا جماعةً، وقتلنا جماعةً، وعُدنا سالمين مَعَ المعظَّم إِلى الطُّور، فشرع المُعَظّم في عمارة حِصْنٍ عَلَيْهِ، وبناه إِلى آخر سنة ثمانٍ، فتكامل سورهُ، وبنى فيه مُدَّةً بعد ذلك، ولا نحصي ما غرم عليه.
وحَجَّ بالنّاس سيف الدّين عليّ بْن سُلَيْمَان بن جندر من أمراء حلب.
وفيها اتّفقت الملوك عَلَى المَلِك العادل، منهم: سلطان الروم، وصاحب المَوْصل، وصاحب إرْبِل، وصاحب حلب، وصاحب الجزيرة؛ اتّفقوا عَلَى مشاققة العادل، وأن تكون الخطبة بالسّلطنة لصاحب الروم خُسرو شاه بن قليج أرسلان، فأرسلوا إِلى الكُرْج بالخروج إِلى جهة خِلاط، وخرجَ كلٌّ منهم بعساكره إِلى طرف بلاده ليجتمع بصاحبه عَلَى قصد العادل، وكان هُوَ بحرَّان وعنده صِهرُه صاحب آمِد، فنزل الكُرج عَلَى خلاط مَعَ مقدَّمهم إيواني، -[23]- وصاحبها يومئذ الأوحد ابن المَلِك العادل كما تقدمَّ، وأنّه أُسِر فأكرمه الأوحد، وطالع بذلك والده فطار فرحًا، وعلم بذلك الملوك المذكورون فتفرّقت آراؤهم وصالحوا العادل، واشترى إيواني نفسه بثمانين ألف دينار، وبألفَيْ أسيرٍ من المسلمين، وبتسليم إحدى وعشرين قلعة متاخمة لأعمال خِلاط كَانَ قد تَغَلَّب عليها، وبتزويج بنته لأخي الأوحد، وأن يكون الكُرج معه أبدًا سِلْمًا، فاستأذن الأوحد والده في ذَلِكَ، فأمضاه، وأطلقه وعاد إِلى مُلكه، وحمل بعض ما ذكرنا، وسومح بالباقي، فلمّا صارت خلاط للملك الأشرف تزوج بابنة إيواني.
وفيها كَانَ إملاك نور الدّين أرسلان شاه صاحب المَوْصل عَلَى ابنة العادل بقلعة دمشق على صداق ثلاثين ألف دينار، وكان العقد مَعَ وكيله، ثُمَّ ظهر أَنَّهُ قد مات بالموصل من أيّام، وقام ولده عزّ الدّين.
وفيها ظهرت عُمله بني السَّلار السّتَّة عشر ألف دينار عَلَى ابن الدُّخَيْنَة بعد طول مكثه في الحبس، وموت زوجته تحت الضَّرْب وعَصْرِه مَرّات وعَصْر بناته وابنه، وما قَرُّوا بشيء. وكان أكثر الذَّهَب مدفونًا تحته بسجن القلعة، وانكشف أمرها بأيسر حال من جهة منصور ابن السّلار، فإنّه بحثَ عنها بسبب أَنَّهُ حُبِسَ عليها، وجُمِعَ من المبلغ عشرة آلاف دينار ومائتين. ثُمَّ مات ابن الدُّخَيْنَة في الحبس، وصلب ميتاً بقيسارية الفرش.
وفيها شرع في بناء المصلى بظاهر دمشق، وعُملت أبواب الجامع من جهة بَاب البريد، وبني شاذروان الفوارة، وعمل بها المسجد، ورتب له إمام.
وفيها توجّه البال القُبرصيّ - لعنه الله - في مراكب من عَكّا، توجّه إِلى ساحل دِمياط وأرسى غربيّها، وطلع وسار في البرّ بجيوشه فكبس قرية نورة وسبى أهلها، ورَدَّ إِلى مراكبه. -[24]-
وفيها نقصت دجلة نقصًا مُفرطًا، حتّى خاض النّاس دجلة فوق بغداد، وهذا أمر لم يُعهد مثله، قاله ابن الأثير.