فيها نزلت الكُرج عَلَى خلاط فضايقوها وكادوا يأخذونها، وكان بها الأوحد ابن المَلِك العادل، فَقَالَ لملك الكُرج إيواني مُنَجِّمُهُ: ما تبيت اللّيلة إلا في قلعة خلاط. فاتّفق أنّه شرِب وسكِر، وركب في جيوشه وقصد بَابُ البلد، فخرج إِلَيْهِ المسلمون، ووقع القتال، فعثر بِهِ فرسُهُ فوقع، فتكاثَر عَلَيْهِ المسلمون، وَقُتِلَ حوله جماعةٌ من خواصّه، وأُسر، فَما باتَ إلا بالقلعة، وهرب جيشه. وقيل: جرى ذلك في سنة سبع.
وفيها نزل السّلطان المَلِك العادل عَلَى سنجار بجيوش عظيمة، وضربها بالمجانيق أشهرًا، وكاد أن يفتحها، فأرسل المَلِك الظّاهر من حلب أخاه المؤيَّد مسعودًا إِلى العادل يشفع في أهل سنجار وصاحبها قُطْب الدّين مُحَمَّد بْن زنكي بْن مودود، فلم يشفّعه. ومات المؤيَّد في السَّفر برأس عين، وكرهت المشارقة مجاورةَ المَلِك العادل، فاتّفقوا عَلَيْهِ مَعَ صاحب إربل وتشفّعوا إِلَيْهِ، فرحل بعد أن أخذ نَصِيبين والخابور ونزل حَرّان، وكانت هذه من سيّئات العادل؛ يدع جهاد الفرنج ويقاتل المسلمين، فإنّا لله.
وقال ابن الأثير في " الكامل ": لمّا استقرّ أمر خُراسان لخُوارزم شاه محمدّ بْن تكش عَبَر جيحون في هذه السنة في جحفلٍ عظيم، فجمع الخطا -[17]- جموعهم، والمقدم عليهم طاينكو، وكان شيخًا مُسِنًّا لقي الحروب. وكان مؤيَّدًا فيها مُدَبِّرًا، فكانت وقعةٌ لم يُشهد مثلها، انكسر فيها الخطا وقُتل خلقٌ كثير، وأُسر طاينكو فجيء بِهِ إِلى خُوارزم شاه، فأجلسهُ معه عَلَى السّرير واحترمه، ثُمَّ سَيَّرَهُ إِلى خُوارزم، وافتتح خُوارزم شاه بلاد ما وراء النهر قَهْرًا وصُلْحًا حتّى بلغ أوزكند، وجعل نائبه عليها، ورجع إِلى خُوارزم وفي خدمته ملك سمرقند، وكان من أحسن النّاس صُورة، فزوّجه خُوارزم شاه بابنته، ورَدَّهُ ورَدَّ معه شِحنةً يكون بسمرقند عَلَى قاعدة ملك الخطا مَعَ صاحب سمرقند. فتعب صاحب سمرقند بالخُوارزمية، وندمَ لِما رأى من سوء سيرتهم وقُبح معاملتهم النّاس، وأرسلَ إِلى ملك الخطا يدعوه إِلى سمرقند ليسلّمها إِلَيْهِ، ويعود إِلى طاعته. ثمّ أمرَ بقتل كلّ مَن عنده من الخُوارزميين ووسّط جماعةً من أعيانهم، وعَلَّقَهُم في الأسواق، ومضى إِلى القلعة ليقتل زوجته بنت خُوارزم شاه، فأغلقت الأبواب، ومنعت عَنْ نفسها هي وجواريها، وبعثت تَقُولُ لَهُ: أَنَا امرأة، وقَتْل مثلي قبيح، فاتّقِ الله فيَّ. فتركها وضَيَّقَ عليها. وجاء الخبر إِلى السّلطان والدها، فغضب وقامت قيامته، وأمر بقتل كل من بخوارزم من الغرباء، فمنعتهُ أُمُّه وخَوّفته، فاقتصر عَلَى قتل كلّ سمرقنديٍّ بها، فنهته أيضًا فانتهى. وأمرَ جيشه بالتجهز إلى ما وراء النّهر، فسار وسار في ساقتهم، ونازل سمرقند، وأرسل إِلى صاحبها يَقُولُ لَهُ: قد فعلتَ ما لم يفعله مسلم ولا كافر ولا عاقل، وقد عفا الله عَمّا سلف، فاخرُجْ عَنِ البلاد إِلى حيث شئت. فامتنعَ، فزحفَ عَلَيْهِ، ونصبَ السّلالم عَلَى السّور، وأخذ سمرقند، ووقع القتل والنّهب ثلاثة أيّام، فيقال: إنّهم قتلوا بها مائتي ألف، وسلم دَرْب الغُرباء والتّجار بحماية. ثمّ زحفوا عَلَى القلعة، فأخذت، وأُسر المَلِك، فلمّا أُحضر قَبَّل الأرض وطلب العفو، فقتله صبرًا، واستعمل نوّابًا عَلَى سمرقند.
وأمّا الخطا فلمّا ذهبوا مهزومين اجتمعوا عند ملكهم ولم يكن شهد الوقعة. وكان طائفة من التّتار قد خرجوا من بلادهم أطراف الصّين قديمًا فنزلوا وراء بلاد تُركستان، فكان بينهم وبين الخطا حروب في هذا القرب، فلما -[18]- سمعوا أنّ خُوارزم شاه كسر الخطا قصدوهم مَعَ مُقَدَّمهم كشلوخان، فلمّا رأى ذَلِكَ ملك الخطا كتبَ إِلى خُوارزم شاه: أمّا ما كَانَ منك من أخْذ بلادنا وقتْل رجالنا فمعفُوٌّ عَنْهُ، فقد أتانا من هذا العَدوّ ما لا قِبَلَ لنا بِهِ، فإنِ انتصروا علينا وأخذونا فلا دافع لهم عنك، والمصلحة أن تسير إلينا في عساكرك، وتُنجدنا عَلَى حربهم، فكاتب خُوارزم شاه مُقَدَّم التّتار كشلوخان: إنّني معك عَلَى قتال الخطا. وكاتب ملك الخطا: إنّني قادم لنُصْرتكم. وسار في جيوشه إِلى أن نزل بقرب مكان المصاف، فلم يخالطهم، بل أوهمَ كُلًّا من الطّائفتين أنّه معهم، وأنّه كمين لهم، فالتقوا فانهزم الخطا أقبح هزيمة، فمال حينئذٍ خُوارزم شاه مَعَ التّتار عليهم قَتْلًا وأسرًا، فلم يُفلت منهم إلا القليل مع ملكهم لجؤوا إِلى جبالٍ منيعة وتحصّنوا بها، وانضمّ إِلى خُوارزم شاه منهم طائفة كبيرة، وصاروا في جيشه. فأرسل يَمُنّ عَلَى كشلوخان، فاعترف لَهُ وأرسل إِلَيْهِ بأن يتقاسما مملكة الخطا كما اتّفقا عَلَى إبادتهم، فَقَالَ خُوارزم شاه: لَيْسَ لك عندي إلا السّيف، فإنْ قنعت بالمُسالمة وإلّا سرتُ إليك. ثُمَّ سارَ حتّى قاربه، ثُمَّ تبيّن لَهُ أَنَّهُ لا طاقة لَهُ بالتّتر، فأخذ يراوغهم ويُبيّتهم ويتخطّفهم، فأرسل إِلَيْهِ كشلوخان: لَيْسَ هذا فِعْل الملوك، هذا فِعْل اللّصوص، فإنْ كُنتَ سلطانًا فاعمل مصافًّا، فجعل يغالطه ولا يجيبه، لكنّه أمرَ أهل فرغانة والشاش وأسبيجاب وكاسان وتلك البلاد النَّزِهَة العامرة بالجلاء والْجَفَل إِلى سمرقند وغيرها، ثُمَّ خرَّبها جميعها خوفًا من التتار أن يملوكها. ثم اتفق خروج جنكزخان والتتار الذين أخربوا خُراسان عَلَى كشلوخان، فاشتغل بحربهم مدَّةً عَنِ السلطان خوارزم شاه فرجع إلى بلاد خراسان.
قلتُ: وكان هذا الوقت أوّل ظهور الطّاغية جنكزخان، وأوّل خروجه من أراضيهم إِلى نواحي التُرك وفرغانة. وأراضيهم براري من بلاد الصّين.
قَالَ الموفَّق عَبْد اللّطيف بْن يوسف في خبر التّتار: هُوَ حديث يأكل الأحاديث، وخبر يطوي الأخبار، وتاريخ يُنْسِي التّواريخ، ونازلة تُصَغِّر كُلَّ نازلة، وفادحة تطبق الأرض وتملؤها ما بين الطّول والعرض. وهذه الأمَّة -[19]- لُغتهم مَشُوبة بلغة الهند؛ لأنّهم في جوارهم، وبينهم وبين تَنْكُت أربعة أشهر. وهم بالنّسبة إِلى التُرك عراض الوجوه، واسعو الصُّدور، خفاف الأعجاز، صِغار الأطراف، سُمر الألوان، سريعو الحركة في الجسم والرأي، تصل إليهم أخبار الأمم، ولا تصل أخبارهم إِلى الأمم، وقَلّما يقدر جاسوس أن يتمكنّ منهم؛ لأنَّ الغريب لا يتشبّه بهم، وإذا أرادوا جهةً كتموا أمرهم ونهضوا دفعةً واحدةً، فلا يعلم بهم أهل بلدٍ حتّى يدخلوه، ولا عسكر حتّى يخالطوه، فلهذا تفسد عَلَى النّاس وجوه الحِيَل، وتضيق طُرق الهرب، ويسبقون التّأهّب والاستعداد. ونساؤهم يقاتلن كرجالهم، وربّما كَانَ للمرأة رضيع فتعلّقه في عُنقها وترمي بالقوس. يَرِد عَلَى البلد منهم أوّلًا نفرٌ يسير حتّى يطمع فيهم أهله، فينشرون وراءهم حتّى يُبْعِدوا وذاك النّفر منهزمون بين أيديهم، ثمّ ينهالون عليهم كقِطَع اللّيل فيُعجلونهم عَنِ المدينة فيجعلونهم كالحصيد، ويدخلون المدينة فيقتلون النّساء والصّبيان بغير استثناء. وأمّا الرجال فربّما أبقوا منهم من كَانَ ذا صنعة أو لَهُ قوَّة في الخدمة.
قَالَ: والغالب عَلَى سلاحهم النشاب وكلهم يصنعه، ونصولهم قرون وحديد وعِظام، ويطعنون بالسّيوف أكثر ممّا يضربون بها. ولهم جواشن من جلود وخِفاف واقية. وخيلهم تأكل الكلأ رطبًا ويابسًا، وما وَجَدَتْ من ورق وخشب، وإذا نزلوا عنها أطلقوها. وسروجهم صغار خفاف لَيْسَ لها قيمة. وأكلهم لحم أيّ حيوان وُجِدَ وتمسّه النار تَحِلَّةَ القَسَم. وليس في قَتْلهم استثناء ولا إبقاء. وكأنَّ قصْدهم إفناء النّوع، وفعلوا ذَلِكَ بجميع خُراسان، ولم يسلم منهم إلا أصبهان وغَزْنة.
قَالَ: ويظهر من حالهم أنهم لا يقصدون المُلْك والمال بل إبادة العالم ليرجع يبابًا.
وقال غيره: هذه القبيلة الخبيثة تعرف بالتّمرجيّ سكّان البراري قاطع الصّين، ومَشْتاهم بموضع يُعرف بأرغُون. وهم طائفة مشهورة بالشّرّ والغدر. وسبب ظهورهم أنّ إقليم الصّين متَّسع مسيرة دورة ستَّة أشهر، ويقال: إنّه -[20]- يحويه صور واحد لا ينقطع إلّا عند الجبال والأنهار. قلت: وهذا بعيد وهو ممكن. والصّين ستّ ممالك، ولهم ملك حاكم عَلَى الممالك الستة، وهو قانهم الأكبر المقيم بطمخاخ، وهو كالخليفة للمسلمين. وكان سلطان أحد الممالك السّتَّة وهو دوس خان قد تزوّج بعمَّة جنكزخان، فحضر زائرًا لعمّته وقد مات زوجها. وكان قد حضر مَعَ جنكزخان كشلوخان، فأعلمتهما أنّ المَلِك لم يخلّف ولدًا، وأشارت عَلَى ابن أخيها أن يقوم مقامه، فقام وانضمّ إِلَيْهِ خلق من المغول. ثمّ سَيّر التّقادم إلى الخان الكبير، فاستشاط غضباً، وأمر يقطع أذناب الخيل الّتي أهديت وطردها، وقتلَ الرُّسل، لكون التّتار لم يتقدّم لهم سابقة بتملّك، إنّما هم بادية الصّين. فلمّا سَمِعَ جنكزخان وصاحبه كشلوخان تحالفا عَلَى التّعاضد، وأظهرا الخلاف للخان، وأتتهما أُمم كثيرة من التّتار. وعلم الخان قوّتهم وشرّهم، فأرسل يؤانسهم، ويُظهر مَعَ ذَلِكَ أنّه يُنذرهم ويُهدّدهم، فلم يُغْن ذَلِكَ شيئًا، ثُمَّ قصدهم وقصدوه، فوقع بينهم ملحمة عظيمة، فكسروا الخان الأعظم أقبحَ كَسْرة، ونجا بنفسه، وملك جنكزخان بلادَهُ واستفحل شرّه. فراسله الخان بالمسالمة، ورضي بما بقي في يده من الممالك، فسالموه. واستمرّ المُلْك بين جنكزخان وكشلوخان عَلَى المشاركة. ثُمَّ سارا إِلى بلاد ساقون من نواحي الصّين فملكاها. فمات كشلوخان، فقام مقامه ولده، فاستضعفه جنكزخان ووقعت الوحشة، فطلب ابن كشلوخان قبالَق والمالق، فصالحه ملكها ممدود خان بْن أرسلان وملك كاشغر من التُرك، وقوي، وبَعُد صيته، فجَرَّد لحربه جنكزخان ولده دُوشي خان في عشرين ألفًا، فحاربه وظفر بِهِ دوشي خان. واستقلّ جنكزخان، ودانت له التتار وانقادت له، ووضع لهم قواعد يرجعون إليها، فالتزموا بها وأوجبوها عَلَى نفوسهم، بحيث إنّه مَنْ خالفَ شيئًا منها فقد ضَلّ ووجب قتلُه. واعتقدوا فيه وتألّهوه، وبالغوا -[21]- في طاعته والتزام ياسته. ثُمَّ وقع مصافٌّ في بلاد التُّرك بين دوشي خان والسّلطان خُوارزم شاه محمّد، فانهزم دُوشي خان بعد أن أنكى في جيش محمّد. وعاد محمّد إلى بلاد سمرقند وهو في هَمٍّ وفِكْرٍ لما رأى من صبر التتار وقتالهم وكثرتهم. وستأتي أخبارهم فيما بعد عند ظهورهم عَلَى خُوارزم شاه، وأخذهم ممالكه سنة سبْع عشرة.