قال الموفّق عَبْد اللّطيف: دخلت سنة سبعٍ مفترسة لأسباب الحياة، ويئسوا من زيادة النيل، وارتفعت الأسعار، وأقحطت البلاد، وضَوَى أَهْل السّواد والريف إلى أمّهات البلاد، وجلا كثير إِلَى البلاد النّائية، ومزِّقوا كلَّ ممزَّق، ودخل منهم خلْقٌ إِلَى القاهرة، واشتدّ بهم الجوع، ووقع فيهم الموت عند نزول الشّمس الحمل، ووبئ الهواء، وأكلوا الميتات والبَعر، ثمّ تعدّوا إِلَى أكْل الصِّغار، وكثيرًا ما يُعثر عليهم ومعهم صِغار مشويّون أو مطبوخون، فيأمر السّلطان بإحراق الفاعل، رأيتُ صغيرًا مشْوِيًّا مع رجلٍ وامرأة أُحضرا فقالا: نَحْنُ أبواه، فأمر بإحراقهما، ووُجد بمصر رَجُل قد جُرّدت عظامُه وبقي قَفصاً، وفشى أكْلُ بني آدم واشتهر ووجِد كثيرًا، وحكى لي عدَّة نساء أنّه يتوثَّب عليهنّ لاقتناص أولادهنّ ويُحامين عنهم بجَهْدهنّ، ولقد أُحرِق من النّساء بمصر فِي أيّامٍ يسيرة ثلاثون امْرَأَة، كلٌّ منهنّ تُقِرّ بأنّها أكلت جماعة، ورأيت امْرَأَةً أُحضرت إِلَى الوالي وَفِي عنقها طفلٌ مَشوِيّ، فضُرِبت أكثر من مائة سَوط، على أن تقرّ، فلا تخبر جوابًا، بل تجدها قد انخلعت عن الطِّباع البشريَّة، ثمّ سُجِنت فماتت، وحكى لنا رَجُل أنّه كان له صديق، فدعاه ليأكل، فوجد عنده فقراء قدّامهم طبيخ كثير اللّحم، وليس معه خبز، فرابه ذلك، وطلب المِرحاض، فصادف عنده خزانة مشحونة برُمم الآدميّين وباللّحْم الطَّريّ، فارتاع وخرج هاربًا، وقد جرى لثلاثةٍ من الأطبّاء ممّن ينتابني، أمّا -[942]- أحدهم فإنّ أَبَاهُ خرج فلم يرجع، والآخر فأعطته امْرَأَة درهمين ومضى معها، فلمّا توغّلت به مضائق الطُّرق استراب وامتنع، وشنّع عليها، فتركت دراهمها وانسلت، وأمّا الثالث فإنّ رجلًا استصحبه إِلَى مريضةٍ إِلَى الشَارع، وجعل فِي أثناء الطّريق يتصدَّق بالكِسَر ويقول: هَذَا وقت اغتنام الأجر، ثمّ أكثر حَتَّى ارتاب منه الطّبيب، ودخل معه دارًا خَرِبة، فتوقّف فِي الدَّرج، وفتح الرجل فخرج إليه رفيقه يقول: هَلْ حصل صيد ينفع؟ فجزع الطّبيب، وألقى نفسه إِلَى إصطبل، فقام إليه صاحب الإصطبل يسأله، فأخفى قصّته خوفًا منه أيضًا فقال: قد علمت حالك، فإنّ أَهْل هَذَا المنزل يذبحون النّاس بِالحيَل، ووجدنا بإطفيح عند عطّار عدّة خوابي مملوءة بلحوم الآدميّين في الماء والملح، فسألوه فقال: خفت دوام الْجَدْب فيهزل النّاس، وكان جماعة قد أَوَوا إِلَى الجزيرة، فعُثِر عليهم، وطُلبوا ليُقتَلوا فهربوا، فأخبرني الثّقة أنّ الذّي وُجد فِي بيوتهم أربع مائة جمجمة.
ثمّ ساق غير حكاية، وقال: وجميع ما شاهدناه لم نتقصّده ولا تتبّعنا مظانّه، وإنما هُوَ شيء صادفناه اتّفاقًا، وحكى لي من أثق به أنه اجتاز على امرأةٍ وبين يديها ميّت قد انتفخ وانفجر، وهي تأكل من أفخاذه، فأُنكِر عليها، فزعمت أنّه زوجها.
ثُمَّ قال: وأشباه هذا كثير جدّاً، وممّا شاع أيضا نبْش القبور، وأكل الموتى، فأخبرني تاجر مأمون حين ورد من الإسكندرية بكثرة ما عاين بها من ذلك، يعني من أكل بْني آدم، وأنّه عاين خمسة أرؤس صغار مطبوخة فِي قِدر، وهذا المقدار كافٍ، واعتقد أني قد قصرت.
وأمّا موت الفقراء جوعًا فشيءٌ لا يعلمه إلا اللَّه تعالى، فالّذي شاهدناه بالقاهرة ومصر وهو أنّ الماشي لا يزال يقع قدمه أو بصره على ميّت، أو مَن هُوَ فِي السيّاق، وكان يُرفع من القاهرة كلّ يوم من المَيْضَأة ما بين مائة إلى خمس مائة، وأما مصر فليس لموتاها عدد، يُرمون ولا يُوارَون، ثمّ عجزوا عن رميهم، فبقوا فِي الأسواق والدّكاكين، وأما الضواحي والقرى، فهلك أهلها -[943]- قاطبةً إلاّ من شاء الله، وأن المسافر ليمرّ بالقرية فلا يرى فيها نافخ نار، وتجد البيوت مفتَّحة وأهلها موتى، حدَّثني بِذَلِك غير واحد، وقال لي بعضهم: إنّه مرّ ببلدٍ ذكر لنا أن فيها أربع مائة نَوْل للحياكة، فوجدناها خرابًا، وأنّ الحائك فِي جورة حياكته ميّت، وأهله موتى حوله فحضرني قوله تعالى: {إِن كَانت إِلاَّ صَيحةً وَاحدَةً فَإِذَا هُم خَامًدونَ}.
قال: ثمّ انتقلنا إِلَى بلدٍ آخر، فوجدناه ليس به أنيس، واحتجنا إِلَى الإقامة به لأجل الزّراعة، فاستأجرنا من ينقل الموتى ممّا حولنا إلى النيل، كلّ عشرة بدرهم، وأخبرت عن صيادٍ بفُوهة تِنَّيس أَنَّهُ مرّ به فِي بعض يوم أربع مائة آدميّ يقذف بهم النّيل إِلَى البحر، وأمّا أَنَا فمررت على النّيل، فمرّ بي في ساعة نحو عشرة موتى.
وأمّا طريق الشام فصارت منزرعةً ببني آدم، وعادت مأدبة بلحومهم للطّير والسِّباع، وكثيرًا ما كَانَت المرأة تتخلّص من صِبيتها في الزّحام، فيتضورون حتّى يموتوا، وأمّا بيع الأحرار فشاع وذاع، وعرض عليَّ جاريتان مراهقتان بدينار واحد، وسألتني امْرَأَة أن أشتري ابنتها وكانت جميلة دون البلوغ بخمسة دراهم، فعرّفتها أنّ ذلك حرام فقالت: خذها هديَّة، وقد أُبيع خلقٌ، وجُلِبوا إِلَى العراق، وخُراسان، هَذَا، وهم عاكفون على شهواتهم، منغمسون فِي بحر ضلالاتهم، كأنَّهم مُستثنون، وكانوا يزْنون بالنّساء حتّى إنّ منهم مَن يقول: إنّه اقتض خمسين بِكْرًا، ومنهم من يقول: سبعين، كلّ ذلك بالكسْر.
وأمّا مصر فخلا مُعظمها، وأمّا بيوت الخليج وزقاق البركة والمقْس وما تاخم ذلك، فلم يبق فيها بيتٌ مسكون، ولم يبق وقود النّاس عِوض الأحطاب إلا خشب السّقوف والبيوت الخالية، وقد استغنى طائفة كبيرة من النّاس فِي هَذِهِ النَّوبة، وأمّا النّيل فإنه اخترق في برمودة اختراقاً كبيرا، وصار المقياس في أرض جزر، وانحسر الماء عَنْهُ نحو الجزيرة، وظهر فِي وسطه جزيرة عظيمة ومقطَّعات أبنية، وتغيّر رِيحه وطعمه، ثمّ تزايد التّغيُّر، ثُمَّ -[944]- انكشف أمره عن خُضْرة طحلبيَّة، كلمّا تطاولت الأيام ظهرت وكثّرت كالّتي ظهرت في أبيب من السّنة الخالية، ولم تزل الخضرة تتزايد إِلَى أواخر شعبان، ثمّ ذهبت، وبقي فِي الماء أجزاء نباتيّة منتنة، وطاب طعمه وريحه، ثمّ أَخَذَ ينمَى ويقوى جرْيه إِلَى نصف رمضان، فقاس ابن أبي الرداد قاع البركة فكان ذراعين، وزاد زيادةً ضعيفة إلى ثامن ذي القعدة، ثم وقف ثلاثة أيّام، فأيقن الناس بالهلاك، واستسلموا، ثُمَّ إنه أَخَذَ فِي زيادات قويَّة، فبلغ فِي ثالث ذي الحجَّة خمسة عشر ذراعًا وستة عشر إصبعًا، ثُمَّ انحطَّ من يومه، ومسّ بعض البلاد تحلة القسم، وأَرْوَى الغربيَّة ونحوها، غير أنّ القرى خالية كما قال تعالى: {فأَصبحُوا لا يُرى إلاَّ مَساكنُهُم}، وزرع الأمراء بعض البلاد، ونهاية سعر الإرْدبّ خمسة دنانير، وأمّا بقُوص، والإسكندريَّة فبلغ ستَّة دنانير.
ودخلت سنة ثمانٍ وتسعين والأحوال على حالها أو فِي تزيُّد إِلَى زُهاء نصف السّنة، وتناقصت موت الفقراء لقلّتهم، لا لارتفاع السّبب الموجب وتناقص أكْل الآدمييّن ثُمَّ عُدِم، وقلَّ خطفُ الأطعمة من الأسواق لفناء الصعاليك، ثُمَّ انحطّ الأردبّ إِلَى ثلاثة دنانير لقلَّة الناس، وخفّت القاهرة، وحُكي لي أنّه كان بمصر تسع مائة مَنْسَج للحُصر، فلم يبْق إلّا خمسة عشر منسجًا، فقِسْ على هَذَا أمر باقي الصُّناع من سائر الأصناف، وأما الدّجاح فعُدِم رأسًا، لولا أنه جُلِب من الشام، وحُكي لي أنّ رجلًا جلب من الشام دجاجًا بستّين ديناراً، باعها بنحو ثمانمائة دينار، فلمّا وُجد البيض بيع بيضة بدرهم، ثمّ كثُر، وأمّا الفراريج فاشتُرِي الفرُّوج بمائة درهم، ثمّ أبيع بدينارٍ مُديدة.
وقال في أمر الخراب: فأما الهلاّلية، ومُعظم الشارع ودور الخليج، وحارة السّاسة والمقْس، وما تاخم ذلك، فلم يبق فيها أنيس، وإنّما ترى مساكنهم خاويةً على عروشها.
قال: والذّي تحت قلم ديوان الحبس من الموتى الحشرية وضمّته المَيْضأة فِي مدَّة اثنتين وعشرين شهرًا مائة ألف وأحد عشر ألفًا إلّا شيئًا يسيراً. -[945]-
قلت: هَذَا فِي القاهرة.
قال: وهذا مع كثرته نزرٌ فِي جَنْب ما هلك بمصر والحواضر، وكلّه نزرٌ في جنب ما هلك بالإقليم، وسمعنا من الثِّقات عن الإسكندرية أن الْإِمَام صلى يوم الجمعة على سبع مائة جنازة، وأن ترِكةً انتقلت فِي مدَّة شهر إِلَى أربعة عشر وارثًا، وأنّ طائفة تزيد على عشرين ألفًا انتقلوا إِلَى بَرْقة وأعمالها، فعمروها وقطنوا بها، وكانت مملكة عظيمة خربت فِي زمان خلفاء مصر على يد الوزير اليازوريّ، ونزح عنها أهلها.
ومن عجيبٍ ما اتفق لشيخٍ من أطباء اليهود ممن كان ينتابني أنّه استدعاه رجلٌ ذو شارة وشُهرة، فلما صار في المنزل وأغلق الباب وثب المريض عليه فجعل في عنقه وهَقاً، ومرث خصيتَيه، ولم يكن له معرفة بالقتل، فطالت المناوشة، وعلا ضجيجه، فتسامع النّاس، ودخلوا فخلّصوا اليهودي، وبه رَمق، وقد وجبت خصَاه، وكُسرت ثنيَّتاه، وحُمل إِلَى منزله، وأُحضر ذاك إِلَى الوالي فقال: ما حملك على هَذَا؟ قال: الجوع فضربه ونفاه.
في سحر يوم الاثنين السّادس والعشرين من شعبان ارتاع الناس، وهبّوا من مضاجعهم مدهوشين، وضجّوا إلى الله تعالى، وبقيت مدَّة وكانت حركتها كالغَرْبلة، أو كخفْق جناح الطّائر، وانقضت على ثلاث زحفات قوية، مادّت الأبنية، واصطفقت الأبواب، وتداعى من الأبنية الواهي والعالي، ثُمَّ تواترت الأخبار بحدوثها فِي هَذِهِ الساعة فِي البلاد النائية، فصحّ عندي أنّها تحرَّكت من قُوص إِلَى دِمياط والإسكندرية، ثُمَّ بلاد الساحل بأسرها، والشام طولًا وعرضًا، وتعفّت بلادٌ كثيرة وهلك من الناس خلْق عظيم وأُمم لا تُحصى، ولا أعرف فِي الشام أحسن سلامه من القدس، وأنكت فِي بلاد الفرنج أكثر، وسمعنا أنها وصلت إلى خلاط وإلى قبرس، وأن البحر ارتطم وتشوهت مناظره، وصار فرقا كالأطواد، وعادت المراكب على الأرض، ثُمَّ تراجعت المياه، وطفا سمكٌ كثير على سواحله، ووردت كتُب من الشام بأمر الزّلّزلة، -[946]- واتصّل بي كتابان أوردتُهما بلفظهما، يقول فِي أحدهما: زلزلةٌ كادت لها الأرض تسير سيرًا، والجبال تمُور مَوْرًا، وما ظنّ أحدٌ من الخلق إلاّ أنها زلزلة السّاعة، وأتت في الموقت على دفعتين، فأمّا الدّفعة الأولى فاستمرت مقدار ساعةٍ أو تزيد عليها، وأمّا الثانية فكانت دونها، ولكنْ أشدّ منها، وتأثّر منها بعض القلاع، فأوّلها قلعة حماه، وَفِي الكتاب الآخر أنها دامت بمقدار ما قرأ سورة " الكهف " وأنّ بانياس سقط بعضها، وصَفَد لم يَسْلَمْ بها إلّا ولد صاحبها لا غير، ونابلس لم يبق بها جدارٌ قائمٌ سوى حارة السّمرة، وكذلك أكثر حَوْران، غارت ولم يُعرف لبلدٍ منها موضعٌ يُقَالُ فِيهِ هَذِهِ القرية الفلانية.
قلت: هَذَا كذِب وفُجُور من كاتب هَذِهِ المكاتبة أَمَا استحى من اللَّه تعالى؟
ثُمَّ قال فِيهِ: ويقال: إنّ عِرْقة خُسف بها، وكذلك صافيتا.
قال الموفّق: وأخبرونا أنّ بالمقْس تلًّا عظيمًا عليه رممٌ كثيرة فأتيناه ورأيناه وحدسناه بعشرة آلاف فصاعدا، وهم على طبقاتٍ فِي قُرب العهد وبعده، فرأينا من شكل العظام ومفاصلها وكيفيَّة اتّصالها وتناسُبها وأوضاعها ما أفادنا عِلمًا لا نستفيده من الكتُب، ثُمَّ إنُنا دخلنا مصر، فرأينا فيها دروبًا وأسواقًا عظيمة كَانَتْ مغتصَّة بالزّحام، والجميع خالٍ ليس فِيهِ إلّا عابر سبيل، وخرجنا إلى سكرجة فرعون، فرأيت الأقطار كلُها مغتصَّة بالْجُثَث والرمَّم، وقد غلبت على الآكام بحيث جلَّلتها، ورأينا فِي هَذِهِ الأسكرجة وهي عظيمة، الجماجم بيضا وسودا ودكنا، وقد خفي أكثرها وتركها سائر العظام، حتى كأنها رؤوس لم تكن معها أبدان، أو كَأنها بيّدر بِطِّيخ.
قال أبو شامة: وجاءت فِي شعبان سنة سبْعٍ زلزلة هائلة عمّت الدنيا فِي ساعةٍ واحدةٍ، هدمت بنيان مصر، فمات تحت الهدْم خلقٌ كثير، ثمّ امتدّت إِلَى الشام، فهدمت مدينة نابلس، فلم يبق فيها جدار قائم إلا حارة السّمرة، ومات تحت الهدم ثلاثون ألفًا، وهُدمت عكّا وصور، وجميع قلاع السّاحل.
قلت: هَذَا نقله الْإِمَام أبو شامة من " مرآة الزّمان " ومصنَّفه شمس -[947]- الدين يوسف رحمه الله كثير الخسف والمجازفة، وإلّا مَن عنده ورع لم يُطلق هذه العبارات إذ لم تصل الصورة إلى هذا الحد، فقوله أولا: عمت الدنيا مجرد دعوى فما الذي أطلعه على جميع الممالك، وقوله: فلم يبق منهما جدار قائم، مجازفة أيضًا، وقوله: هُدمت جميع قلاع السّاحل، فِيهِ بعض ما فِيهِ كما ترى، فلا تعتمد على تهويله.
قال أبو شامة: ورّمَت بعضَ المنارة الشّرقيَّة بجامع دمشق، وأكثر الكلّاسة، والمارستان النُّوري، وعامَّة دُور دمشق إلّا القليل، وهرب النّاس إِلَى الميادين، وسقط من الجامع ست عشرة شرافة، وتشقَّقت قبَّة النَّسر، وتهدّمت بانياس، وهونين، وتِبْنين، وخرج قومٌ من بَعْلَبَكّ يجمعون الرّيباس من جبل لُبنان، فالتقى عليهم الجبلان فماتوا، وتهدّمت قلعة بعلبك مع عِظَم حجارتها، وانفرق البحر، فصار أطوادًا، وقذف بالمراكب إِلَى السّاحل فتكسّرت، وأحصي من هلك فِي هَذِهِ السّنة فكان ألف ألف ومائة ألف إنسان.
ثم قال: نقلت ذلك من " تاريخ أَبِي المظفّر " سِبْط ابن الجوزي.
وقال ابن الأثير: لمّا ملك العادل مصر وقطع خطبة المنصور ولد الْعَزِيز لم يرض الأمراء بِذَلِك، وراسلوا الظّاهر صاحب حلب، والأفضل بصَرْخَد، وتكرّرت المكاتبات يدعونهما إِلَى قصد دمشق ليخرج العادل، فإذا خرج إليهم أسلموه وتحوّلوا إليهما، ففشا الخبر وعرف العادل، فكتب إِلَى ابنه بدمشق يأمره أن يحاصر صرْخَد فعلم الأفضل، فسار إِلَى حلب، فخرج معه الظّاهر ونازلا دمشق، واتفقا على أن تكون دمشق للأفضل، ثمّ يسيرون إِلَى مصر، فإذا تملّكاها صارت مصر للأفضل، وصارت الشّام كلّها للظّاهر.
رجعنا إِلَى قول أَبِي شامة، قال: وَفِي ذي القعدة حوصرت دمشق، جاء الأفضل والظّاهر، ونَجَدَهما من بانياس حسام الدّين بشارة، وقاتلوا أهلَ دمشق أيّامًا، وكان بها المعظّم عِيسَى، وبلغ أَبَاهُ فقدِم من مصر، ونزل نابلس، وبعث إِلَى الأمراء مكاتبات، فصرفهم إليه، ثم زحف ابنا صلاح الدين، -[948]- المذكوران على دمشق فوصلوا إِلَى باب الفراديس وأحرقوا فندق تقيّ الدّين، وحاربهم الملك المعظّم، وحفظ البلد، وبقوا نحو شهرين، ثمّ بعث العادل فأوقع الخُلْف بين الأخوين فرحلوا، ثمّ قدِم العادل، وجهّز المعظّم مع شركس، وقراجا، فحاصروا حسام الدّين بشارة ببانياس، فقاتلهم وقُتِل ولده، وأخرجوه عن البلد، وتسلّمها شركس وتسلّم قراجا صَرْخَد.
قلت: ذكر المؤيّد أنّ الملك الأفضل سلّم صَرْخَد إِلَى زين الدّين قراجا، ونقل أمّه وأهله منها إِلَى حمص.
واشتدّ حصار الأخوين لدمشق، وتعلّق النّقّابون بسورها، فلمّا شاهد الظّاهر ذلك قال لأخيه: دمشق لي، فقال: حُرمي على الأرض ليس لنا موضع، فهب البلد لك فاجعله لي حتّى تملك مصر فامتنع الظّاهر فقال الأفضل: يا أمراء اتركوا القتال ونُصالح عمّي فتفرّقت الكلمة، وترحل الظاهر، ثم ذهب الأفضل وقنع بسميساط.
وأنبأنا ابن البُزُوريّ قال: وفيها سار غياث الدّين وشهاب الدّين ملكا الغَوْر من غَزْنَة فِي جنودهما إِلَى خُراسان، وبها الأمير جقر، فأكرماه واستوليا على مَرْو، وسيّرا جقر إِلَى هَرَاة مكرّمًا، لأنّهما وعداه بالجميل، ثمّ سلّما مَرْو إِلَى هندوخان بْن ملكشاه بْن علاء الدّين خُوارزم شاه، وكان قد هرب من عمه محمد إلى غياث الدين، ثمّ سار غياث الدّين فملك سَرْخَس صلحًا، وسلّمها إِلَى الأمير زنكي بْن مَسْعُود أحد أولاد عمّه، ثُمَّ سار إِلَى طُوس، فتسلّمها بعد أيام بالأمان، ثم قصد نيسابور وبها علي شاه ابن السلطان خُوارزم شاه، وقد استنابه عليها أخوه قُطْب الدّين مُحَمَّد، فراسله فِي تسليمها، فامتنع وأظهر القوَّة، فقال غياث الدّين لجيوشه: إن دخلتموها فسَحت لكم فِي نهبها، فزحفوا وجدّوا حتّى أخذوا البلد، ووقعوا فِي النّهْب، ثمّ أمر غياث الدّين بكفّ النَّهْب، وأن يرد كلّ شخص ما نهب، فردوه جميعاً، أخبرت عن بعض التّجّار قال: كنت بها، فنُهب لي شيءٌ فِي جملته قليل سُكّر وبساط فحين نودي في العسكر برد ما نهبوه عدا بساطي والسُّكّر، وكنت رَأَيْت ما أُخِذ منّي فِي أيدي جماعة، فطلبته فقالوا: السُّكَّر شرِبناه، ونسْألك أن لا تُشيع ذلك، وإنْ أردت -[949]- الثّمن أعطيناك، فجعلتهم منه فِي حِلٍّ، ثمّ خرجت إِلَى ظاهر البلد، فرأيت البساط مُلْقًى على باب البلد، لا يجسر أحد أن يأخذه، فأخذته.
وانهزمت الخُوارزميَّة، وأُسِر عليّ شاه المذكور، وأُحضر بين يدي السلطان غياث الدّين راجلًا، فصَعُب ذلك عليه، وأنكر على من أسره، وأركبه فرسًا، فلمّا استقرّ به المجلس أحضره، فقال له عليّ شاه: هكذا تفعل بأولاد الملوك؟ فقال: لا، بل هكذا، وأخذ بيده وأجلسه على سريره، وطيّب قلبه، وسيَّر من كان صُحبته من الأمراء إِلَى هَرَاة، واستناب بها ضياء الدين مُحَمَّد بْن عليّ بن عمير، وولاه حرب خراسان، ولقبه الملك علاء الدّين، وأضاف إليه الأمراء، ثُمَّ سلَّم عليّ شاه إِلَى أَخِيهِ شهاب الدّين الغُوريّ.
ثُمَّ رحل السلطان غياث الدين نحو هَرَاة، وسار أخوه شهاب الدّين نحو قهسْتان، وملك بلاد الإسماعيليَّة وطردهم عَنْهَا، وأظهر بها دين الْإِسْلَام، وأقام بها فسأل صاحبها السّلطانَ غياث الدّين أن يرحِّل أخاه عَنْهَا، ففعل ذلك، وأمر أخاه، فأبى عليه، فعاوده فرحل عَنْها إِلَى بلاد الهند مغاضِبًا لأخيه، وأرسل مملوكه قُطب الدّين أَيْبَك فحارب عسكر الهند فهزمهم، وانضمّ إليه عالمٌ كثير، وملك شهاب الدّين مدينةً عظيمةً من مدن الهند بعد أن هرب ملكها عَنْهَا، فعلم أنّه لا يمكن حفْظها إلّا بمُقامه بها، وذلك لا يمكنه، فصالح صاحبها على مالٍ، ورحل عنها.
قال ابن البُزُوريّ: وزُلزِلت الأرض بالجزيرة، والشّام، ومصر، فأخربت الزلزلة أماكن كثيرة جدًّا بدمشق، وحمص، وحماه، واستولى الخراب على صور، وعكّا، ونابلس، وطرابُلُس، وانخسفت قرية من أعمال بُصرَى، وخربت عدَّة قلاع.
وفيها اهتمّ عَبْد الرَّحْمَن بْن حَمْزَة العلويّ المتغلّب على بلاد اليمن بجمْع العساكر، فجمع اثنى عشر ألف فارس، ونحوها رجّالة، فخاف منه الملك المعزّ إِسْمَاعِيل ابن سيف الْإِسْلَام صاحب اليمن، ثمّ إنّ أمراء ابن حَمْزَة اجتمعوا للمشورة، فوقعت عليهم صاعقة، فبلغ ذلك إِسْمَاعِيل، فسار لوقته وحارب عسكر ابن حَمْزَة فهزمهم، وقتل منهم ستَّة آلاف، وتمّكن من اليمن، -[950]- وقهر الرعيّة، وادعى الخلافة وأنّه أُمَوي.
وَفِي ذي القعدة عاد القاضي مجد الدّين يحيى بْن الرَّبِيع مدرّس النّظاميَّة، وكان قد نُفِّذ رسولًا إلى شهاب الدّين الغُوريّ.
وفيها قدِم الأمير مجد الدّين طاشتِكين بعسكره من خُوزستان، ثُمَّ توجه فِي خامس ذي القعدة حاجًّا ومحاربًا للمعز إِسْمَاعِيل ابن سيف الْإِسْلَام، وخرج نائب الوزارة نصير الدين ناصر بْن مهديّ فتوجّه إِلَى الحِلّة لاستعراض العساكر التي تحجّ مع طاشْتِكين، فاستعرضهم، وتوجّهوا، فلمّا وصل طاشْتِكين أرسل إِلَى إِسْمَاعِيل يحذّره عواقب فِعْله ويُنكر عليه، فلم يردعه العتب، فراسل طاشتكِين أمراء اليمن يحثّهم على محاربته ويأمرهم بالجهاد، وكانوا كارهين ما ادّعاه إِسْمَاعِيل من ادّعاء الإمامة، فأجاب أكثرهم إِلَى ذلك، وكان إِسْمَاعِيل يركب فِي أُبَّهَة المُلك، ويحترز كثيرًا على نفسه، فتحالف القرابليّ وأخوه السابق وعيسى بن حوك على اغتياله فركض يوما خلف وحش فوثب عليه القرابلي فحل كتفه بضربة، وضربه السّابق بدد أمعاءه، وناديا بشِعار الدّولة العبّاسيَّة، فلبّى دعوتهما جمعُ من الأمراء، ونزلا من خوفهما مركبا، وهبّت لهم ريح، فسارا فِي خمسة أيام فوصلا جُدة، ثُمَّ أتيا مكَّة، فخلع عليهما طاشتِكين، ونفّذ بهما إِلَى بغداد، فاختارا أن يكونا فِي خدمة طاشتِكين بخوزستان.
وفيها خُلع على الأمير طُغرل المستنجديّ زعيم البلاد الجبليّة.
وفيها وقع الغلاء المُفرِط ببلاد الشراة.