دخلت وَقَدِ اشتدت مضايقة الفِرَنج لعكّا، والقتال بينهم وبين السّلطان مستمر، وكل وقتٍ يأتيهم مددٌ منَ البحر، فوصل ملك الإنكلتير فِي جمادى الأولى، وكان قد دخل قبرس وغَدر بصاحبها وتملكها جميعا، ثُمَّ سار إلى عكّا فِي خمسٍ وعشرين قطعة مملوءة رجالًا وأموالًا، وكان رَجُل وقْته مكرًا ودهاءً وشجاعة، ورُمي المسلمون منه بحجرٍ ثقيل، وعظم الخَطْب، وعملت الفِرَنج تلًّا عظيمًا منَ التّراب لا تؤثر فِيهِ النار ولا غيرها، فنفعهم فِي القتال؛ وأوهى المسلمين خروجُ أميرين فِي الليل ركبوا فِي شيني ولحِقوا بالمسلمين، فضعُفَت الهِمَم ووجلت القلوب، وراسلوا صلاح الدّين، فبعث إليهم أن اخرجوا منَ البلد كلكم عَلَى حمِية، وسيروا مَعَ البحر، واحملوا عليهم، وأنا أجيء من الجهة الأخرى فأكشف عنكم، وذَروا البلد بما فِيهِ. فشرعوا فِي هَذَا، فلم يتهيأ لهم، ولا تمكنوا منه، فَلَمَّا اشتد البلاء عَلَى أهل عكّا وضعُفت قلوبهم، وقلَّت مَنعتهم، ونُقبت بدنة منَ الباشورة، خرج الأمير سيف الدّين عَلِيّ بْن أَحْمَد المشطوب الهَكَّاري إلى ملك الفِرَنج وطلب الأمان، فأبى عليه إلا أن ينزل عَلَى حكمه، فَقَالَ: نَحْنُ لا نُسلّم البلد إلا أن نُقتل بأجمعنا، ورجع مغاضبًا.
فَلَمَّا كَانَ يوم الجمعة لثلاث عشرة بقيت من جُمادى الآخرة زحف الفرنج -[708]- زحفًا شديدًا، وأشرفوا عَلَى أَخْذَ البلد، فطلب المسلمون منهم الأمان عَلَى أن يُسلموا إليهم عكا، ومائتي ألف دينار، وألفًا وخمسمائة أسير، ومائة أسير منَ الأعيان، وصليب الصَّلبوت. فوقع الأمان عَلَى ذَلِكَ، وأخذوا رهائن عَلَى تمام القطيعة، وملكوا عكّا. فَلَمَّا كَانَ فِي ثامن رجب جاءت رُسلهم لذلك، فأحضر السّلطان مائة ألف دينار، وصليب الصَّلبوت، والأسارى، فأبوا إلا جميع المال، واختلف الأمر نحو شهر، ثمّ كمل لهم المال، وأحضر إليهم صليبهم، وكانوا قد ظنُّوا أن السّلطان فرَّط فِيهِ، فَلَمَّا عاينوه خروا لَهُ سُجَّدًا. ثُمَّ ظهر للسّلطان غدرهم ومكْرهم، فتوقَّف فِي إمضاء المقرر.
قَالَ ابن شدّاد فِي " سيرة صلاح الدّين ": " إن الذين بعكا بذلوا للفرنج البلد بما فِيهِ منَ السلاح والآلات والمراكب، ومائتي ألف دينار، وخمسمائة أسير، ومائة أسير يقترحونهم معروفين، وصليب الصَّلَبُوت، عَلَى أن يخرجوا بأموالهم وأهلهم، ويعطوا للمركيس الَّذِي توسَّط بينهم أربعة آلاف دينار، فَلَمَّا وقف السّلطان على هذا أنكره وعظُم عليه، وجمع أَهْل الرأي، واضطربت آراؤهم، وتقسَّم فكره، وعزم عَلَى أن يكتب في تِلْكَ الليلة ينكر عليهم المصالحة، وبقي مترددًا، فلم يشعر إلا وَقَدِ ارتفعت صلبان الكُفْر عَلَى البلد، ونارهم وشعارهم عَلَى السور، وذلك ظُهْر يوم الجمعة سابع عشر من جُمادى الآخرة، وصاح الفرنج صيحةً واحدة، وعظُمت المصيبة عَلَى المسلمين، ووقع فيهم البكاء والنحيب، فإنا للَّه وإنا إِلَيْهِ راجعون.
وخيَّمَ ملك الأنكتير بيافا، وشرعوا فِي عمارتها. ثُمَّ راسل ملك الأنكتير السّلطان في طلب الهدنة، فكانت الرسل تتردَّد إلى الملك العادل، فتقررت القاعدة أن ملك الأنكتير يزوِّج أخته بالملك العادل، ويكون القدس وما بأيدي المسلمين من بلاد الساحل للعادل، وتكون عكّا لأخت ملك الأنكتير مضافًا إلى مملكةٍ كانت لها داخل البحر قَدْ ورثتها من زوجها. وأجاب صلاح الدّين إلى ذَلِكَ، فاجتمع الرهبان والقِسِّيسون، وأنكروا عَلَى الملكة، ومنعوها منَ الإجابة. ثُمَّ إن الفرنج نوهوا بقصد بيت المقدس، فساق صلاح الدّين إلى -[709]- الرملة جريدةً، وجرت بَيْنَ المسلمين وبين الفِرَنج عدة وقعات صِغار فِي هَذِهِ الأيام، فِي سائرها يكون الظَّفَر للمسلمين. ثُمَّ دخل صلاح الدّين القدس لكثرة الأمطار، وتقدمت الفِرَنج إلى النطرون عَلَى قَصدْ بيت المَقْدِس. واشتد الأمر، وجرى بينهم وبين يَزَك المسلمين عدة وقعات. وجدّ صلاح الدّين فِي تحصين القدس بكل ممكن، حتى كان ينقل الحجارة عَلَى فرسه بنفسه.
ومما جرى أن ملك الأنكتير ركب بالفرنج فِي البحر، فركب السّلطان فِي البر لقتالهم. فأحضر الفرنج جماعة من أسارى المسلمين، فقتلوهم صبرًا، فحمل المسلمون عليهم وأزالوهم عَنْ مواقفهم، وقتلوا منهم جماعة، واستشهد من المسلمين جماعة. ثمّ تصرف السّلطان فِي المال المقرَّر، فَلَمَّا دخل شعبان رحلت الفِرَنج بخيلهم ورَجْلهم، فعرف السّلطان أن قصدهم عسقلان، فرحل بالجيش في قبالتهم، وبقي يَزَكُ المسلمين يقاتلونهم فِي كُلّ مرحلة. ثُمَّ كَانَتْ بينهم وبين السّلطان وقعة نهر القَصَب، استشهد فيها أياز الطويل وكان أحد الأبطال. ثُمَّ كَانَتْ وقعة أَرْسُوف، فكانت الدبرة على الفرنج خذلهم اللَّه.
ووصل السّلطان إلى عسقلان فأخلاها، وشرع فِي هدمها فِي أثناء شعبان. ثُمَّ رحل إلى الرملة، فأمر بتخريب حصنها، وتخريب لُدّ، ثُمَّ مضى جريدةً إلى القدس زائرا وعاد.
أَنْبَأَنَا ابن البُزُوريّ، قَالَ: فِي ربيع الأول حضر عَبْد الوهَّاب الكردي السّارق قلعة الماهكيّ مصفَّدًا بالحديد، فرحمه الخليفة وخلع عليه وأُعطي كوسات وأعلامًا، وأقطع الدينور.
وَفِي جُمادى الأولى عُزل عَنِ أستاذ دارية الخلافة عَلِيّ بْن بختيار، وولي جلال الدّين عبيد اللَّه بن يونس.
وَفِي جُمادى الآخرة عدا بركة الساعي من تكريت إلى بغداد فِي يومٍ ولم يُسبق إلى هَذَا، وحصل لَهُ خِلَع ومال طائل.
وَفِيه رُتب الْمَوْصِلِيّ النَّصْراني جاثليق النَّصارى، وخُلع عليه بدار الوزارة، وقُرئ عهده فِي كنيسة درب دينار.
وفي شوال خرج العسكر الخليفتي مع مؤيد الدّين ابن القصّاب نائب -[710]- الوزارة، وعز الدّين نجاح الشرابي إلى بلاد خوزستان، ورجعوا في ذي الحجة.
وفيها ظهر بحلب الشهاب السَّهْرُوَرْديّ الفيلسوف الساحر. وكان فقيهًا واعظًا، ملعون الاعتقاد، بارعًا فِي علوم الأوائل، خبيرًا بالسيمياء، فعقد صاحب حلب الملك الظاهر لَهُ مجلسًا، فأفتوا بكُفْره، فحُبس فِي هَذِهِ السنة ثُمَّ أُحرِق بعد أن ميت جوعًا.
وفيها، فِي آخرها، تأخر الفِرَنج إلى الرملة لقلة الميرة عليهم. وقال ملك الأنكتير لمن معه: إني ما رَأَيْت القدس، فصوروها لي. فرأى الوادي يحيط بها ما عدا موضع يسير من جهة الشمال. فَقَالَ: هَذِهِ مدينة لا يمكن حصرها مَعَ وجود صلاح الدّين، ومع اجتماع كلمة المسلمين.
وفيها، قَالَ لنا ابن البُزُوريّ فِي مذيَّله: قدِم بغداد تاجر حلبي بمالٍ طائل، فعشق واحدةً فأنفق عليها ماله حَتَّى أفلس، ولم يَبْق يقدر عليها، ولا لَهُ صبر عَنْهَا، فدخل عليها فضربها بسِكّينٍ، وضرب نفسه فمات. وأما هي فخيط جرحها وعاشت.
وحجَّ بالناس من بغداد طاشتِكِين عَلَى عادته.
وفيها أَخَذَ دَاوُد أمير مكة ما فِي الكعبة منَ الأموال وطَوْقًا كَانَ يمسك الحجر الأسود لتشعُّثه، إذ ضربه ذاك الباطنيّ بعد الأربعمائة بالدّبوّس. فَلَمَّا قدِم الركْبُ عزل أمير الحاج دَاوُد، وولى أخاه مكثرًا، وهما ابنا عِيسَى بْن فُليتة بْن قاسم بْن مُحَمَّد بْن أبي هاشم الحسني، فأقام داود بنخلة إلى أن تُوُفّي فِي رجب سنة تسعٍ وثمانين، وَهُوَ وآباؤه الخمسة أمراء مكة.