استهلت والفرنج مُحدقون بعكا محاصرون لها، والسلطان بعساكره فِي مقابلتهم، والقتال عمَّال، فتارةً يظهر هَؤُلَاءِ، وتارةً يظهر هَؤُلَاءِ، وقدِمت العساكر البعيدة مَدَدا للسّلطان صلاح الدّين، فقدِم صاحب حمص أسد الدّين، وصاحب شَيْزَر سابق الدّين عُثْمَان ابن الداية، وعز الدّين ابن المقدَّم، وَغَيْرُهُمْ، ثُمَّ قدِمت عساكر الشرق مَعَ مظفَّر الدّين صاحب إربل، ومع عماد الدّين ابن صاحب سِنْجار، ومعز الدّين سَنْجَرشاه بْن غازي. واشتد الأمر، وجدَّت الفِرَنج فِي الحصار، وأتتهم الأمداد في البحر منَ الجزائر البعيدة حَتَّى ملأوا البر والبحر فتوفي صاحب إربل زين الدّين يوسف ابن زين الدّين علي كَوْجَك، ففوض السّلطان مملكة إربل من حينئذٍ إلى أَخِيهِ مظفَّر الدّين كَوْكُبرى بْن علي، ودام الحصار والنزال عَلَى عكّا حَتَّى فرغت السنَّة.؟
ومن كتابٍ فاضلي إلى بغداد: " ومن خبر الفِرَنج أنهم الآن عَلَى عكّا يمدهم البحر بمراكب أكثر عدةً من أمواجه، ويخرج للمسلمين أمر من أجَاجه، وَقَدْ تعاضدت ملوك الكُفْر عَلَى أن يُنهضوا إليهم من كُلّ فرقة طائفة، ويرسلوا إليهم من كُلّ سلاحٍ شوكة، فإذا قُتِلَ المسلمون واحدًا فِي البر بعثوا ألفًا عِوَضه فِي البحر، فالزَّرع أكثر منَ الحصاد، والثمرة أنْمى منَ الجذاذ. وهذا العدو قَدْ زرَّ عليه من الخنادق دروعًا متينة، واستجنّ من الجنونات بحصونٍ حصينة، فصار مستحجزًا، وممتنعًا حاسرًا، ومدرعًا، مواصلًا ومنقطعًا، وعددهم الجم قد كاثر القتل، ورقابهم الغلب، قَدْ قطعت النصل لشدة ما قطعها النصل. -[697]-
وأصحابنا قَدْ أثَّرت فيهم المدة الطويلة، والكِلَف الثقيلة فِي استطاعتهم لا فِي طاعتهم، وَفِي أحوالهم لا فِي شجاعتهم، وكل من يعرفهم يُناشد اللَّه فيهم المناشدة النبويَّة فِي الصحابة البدرية، اللَّهُمَّ إن تهلك هَذِهِ العصابة، ويخلص الدعاء ويرجو عَلَى يد مولانا أمير المؤمنين الإجابة. وَقَدْ حرَّم باباهم، لعنه اللَّه، كُلّ مباح واستخرج منهم كلّ مذخور، وأغلق دونهم الكنائس، ولبس وألبس الحِداد، وحكم أن لا يزالوا كذلك أَوْ يستخلصوا المقبرة. فيا عُصبة مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخلفه فِي أمته بما تطمئن بِهِ مضاجعه، ووفَّه الحق فينا، فَإِنا والمسلمون عندك ودائعه، ولولا أن فِي التصريح ما يعود عَلَى العدالة بالتجريح، لقال الخادم ما يُبْكي العيون وينْكي القلوب، لكنه صابر محتسب، منتظر للنصر مرتقب. ربِّ إني لا أملك إلا نفسي، وها هي فِي سبيلك مبذولة، وأخي وَقَدْ هاجر هجرة يرجوها مقبولة، وولدي وَقَدْ بِذَلت للعدوّ صفحات وجوههم، وهان على محبوبك بمكروههم. ونقف عِنْد هَذَا الحد، وللَّه الأمر من قبل ومن بعد ".
وقَالَ الموفق عَبْد اللطيف: إن الفِرَنج عاثوا فِي سوق العسكر وَفِي الخِيَم، فرجع عليهم السّلطان فطحنهم طحنًا، وأحصى قتلاهم بأنْ غرزوا فِي كُلّ قتيل سهما، ثُمَّ جمعوا السهام، فكانت اثني عشر ألفًا وخمس مائة. والذين لحِقوا بأصحابهم هلك منهم تمام أربعين ألفًا. وبلغت الغرارة عندهم مائةً وعشرين دينارًا.
قَالَ: وخرجوا مرةً أخرى، فقُتل منهم ستة آلاف ونيّف، ومع هَذَا فصبرهم صبرهم. وعمروا عَلَى عكّا بُرجين من خشب كُلّ برج سبْع طبقات، بأخشاب عاتية، ومسامير هائلة، يبلغ المسمار نصف قنطار، وضبّات عَلَى هَذَا القياس، وصُفِّح كُلّ برج منها بالحديد، ولُبس الجلود، ثُمَّ اللُّبود المُشربة بالخل، وجُلِّل ذَلِكَ بشِباك من حبال القِنَّب لترد حدة المنجنيق، وكل واحدٍ يعلو سور عكّا بثلاث طبقات. وزحفوا بهما إلى السور، وَفِي كُلّ طبقة مقاتلة، فيئس المسلمون بعكا، فَقَالَ دمشقي يُقَالُ لَهُ ابن النّحّاس: دَعُوني أضربها بالمجانيق. فسخروا منه، فطلب من قراقوش أن يمكنه من الآلات، ورمى البرج بحجارة حَتَّى خَلْخَلَه، ثُمَّ رماه بقِدْر نِفط، ثُمَّ صاح: اللَّه أكبر، فعلا الدُّخان، فضج المسلمون، وبرزوا من عكا وعملت النار فِي أرجائه، والفرنج -[698]- ترمي أنفسها منَ الطبقات، واشتعلوا، فأحرق المسلمون الستائر والعُدَد، فانكسرت صولتهم، ثم اجتمعت همتهم نوبةً، وعملوا كبشًا هائلا، رأسه قناطير من الحديد لينطحوا به السور فينهدم، فلما سحبوه وقربوا منَ السور ساخ فِي الرمل لِثقله، وعجزوا عَنْ تخليصه، وكان المسلمون فِي عكّا فِي مرض شديد وجوع قَدْ ملّوا منَ القتال، ما يحملهم سوى الْإِيمَان بالله تَعَالَى. وَقَدْ هدمت الفِرَنج برجًا ومئذنة، ثم سد المسلمون ذلك فِي الليل ووثقوه، وكان السّلطان يكون أول راكب وآخر نازل.
قُلْتُ: ولعله وجبت لَهُ الْجَنَّة برباطه هذين العامين.
ذكر العماد الكاتب أَنَّهُ حُزِر ما قُتل منَ الفِرَنج فِي مدة الحرب عَلَى عكّا، فكان أكثر من مائة ألف.
ومن كتاب إلى بغداد: " قد بُلي الْإِسْلَام منهم بقومٍ استطابوا الموت، واستجابوا الصوت، وفارقوا الأوطان والأوطار، والأهل والديار، طاعةً لقسِّيسهم وغيرة لمعبدهم وحميَّة لمعتقدهم، وتهالكًا عَلَى مقبرتهم، وتحرّقًا على قمامتهم، حَتَّى خرجت النّساء من بلادهن متبرزات، وسِرْن فِي البحر متجهِّزات، وكانت منهن ملكة استتبعت خمس مائة مقاتل، والتزمت بمؤونتهم، فأُخِذت برجالها بقرب الإسكندرية. ومنهن ملكة وصلت مَعَ ملك الألمان، وذوات المقانع منَ الفِرَنج مقنعات دارعات، يحملن الطوارق والقنطاريّات. وَقَدْ وُجدت فِي الوقعات التي جرت عدة منهن بَيْنَ القتلى. وما عُرفن حَتَّى سُلبن. والبابا الَّذِي برومية قد حرّم عليهم لذاتهم وكل مَن لا يتوجَّه إلى القدس فهو محرم، لا منكح لَهُ ولا مَطْعَم، فلهذا يتهافتون عَلَى الورود، ويتهالكون على يومهم الموعود ". وقال لهم: " إني واصل فِي الرَّبِيع، جامع عَلَى الاستنفار شمل الجميع، وَإِذَا نهض هَذَا اللعين فلا يقعد عَنْهُ أحد، ويصل معه كُلّ من يَقُولُ للَّه تعالى ولد ".
ومن كتاب فاضلي إلى السّلطان: " فَلَيْس إلا الدعاء والتّجلُّد للقضاء، فلا بُدَّ من قدر مفعول، ودعاء مقبول.
نَحْنُ الذين إذا علوا لم يبطروا ... يوم الهياج وإنْ عُلوا لَمْ يضجروا -[699]-
ومَعاذ اللَّه أن يفتح علينا البلاد ثُمَّ يغلقها، وأن يسلم على يدينا القدس، ثُمَّ ينصِّره، ثُمَّ مُعَاذ اللَّه أن نغلب عن النصر، ثم معاذ اللَّه أن نغلب عَلَى الصَّبر. وَإِذَا كَانَ ما يُقدمنا اللَّه إِلَيْهِ لا بدَّ منه وَهُوَ لقاؤه، فلأن نلقاه والحجة لنا خيرٌ من أن نلقاه والحجة علينا. ولا تعظم هذه الفتوق عَلَى مولانا فتبهر صبره، وتملأ صدره، {فَلا تَهنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ واللَّه معكم}. وهذا دِين ما غُلب بكثرَة وإنما اختار اللَّه له أرباب نيات، وذوي قلوب وحالات، فليكن المولى نِعم الخلف لذلك السلَف، واشتدي أزمة تنفرجي، والغمرات تذهب ثُمَّ لا تجيء، واللَّه يُسمعنا ما يسر القلب، ويصرف عن الإسلام غاشية هذا الكرب. ونستغفر اللَّه فَإنَّهُ ما ابتلى إلا بذنب ".
ومن كتاب آخر يَقُولُ: " ولَسْتُ بملكٍ هازم لنظيره، ولكنك الْإِسْلَام للشِّرك هازم ". يشير رحِمَه اللَّه إلى أَنَّهُ وحده بعسكره فِي مقابلة جميع دين النصرانية، لأن نفيرهم إلى عكّا لَمْ يكن بعده بعد، ولا وراءه حد.
ثم قال: " هذا وليس لك منَ المسلمين مساعد إلا بدعوة، ولا خارج بين يديك إلا بأجرة، نشتري منهم الخطوات شبرًا بذراع، تدعوهم إلى الفريضة، وكأنك تكلفهم النّافلة، وتعرِض عليهم الْجَنَّة، وكأنك تريد أن تستأثر بها دونهم، والآراء تختلف بحضرتك، فقائل يَقُولُ: لَمْ لا يتباعد عَنِ المنزلة؟ وآخر: لَمْ لا يميل إلى المصالحة؟ ومشير بالتّخلّي عَنْ عكّا، حَتَّى كَأَنّ تركها تعليق المعاملة، ولا كأَنَّها طليعة الجيش، ولا قفل الدار، ولا خَرزة السِّلك إنْ وَهَت تَدَاعى السِّلك. فألهمك اللَّه قتل الكافر، وخلاف المخذل، فكما لَمْ يُحدث استمرارُ النِّعم لك بَطَرًا، فلا تُحدث لَهُ ساعات الامتحان ضجرًا "، وما أحسن قول حاتم:
شربنا بكأس الفقر يومًا وبالغنى ... وما منهما إلا سقانا به الدهرُ
فما زادنا بغيًا عَلَى ذِي قرابةٍ ... غِنانا ولا أزرى بأحسابِنا الفقر
وقال الآخر:
لا بطر إن تتابعت نِعَمٌ ... وصابر في البلاء محتسب
وقيل للمهلَّب: أيسرك ظفرٌ لَيْسَ فِيهِ تعب؟ فَقَالَ: أكره عادة العجز، ونحن في ضر قد مسَّنا، ولا نرجو لكشفه إلا منَ ابتلى. وَفِي طوفان فتنة، -[700]- و " لاَ عاصِمَ اليومَ مِنْ أمرِ اللَّه إِلا من رَحِمَ "، ولنا ذنوب قد سدَّت طريق دعائنا، فنحن أولى أن نلوم أنفسنا، والله قدر لا سلاح لنا فِي دفعه إلا: لا حول ولا قوَّة إلا بِاللَّه. وَقَدْ أشرفنا عَلَى أهوال: " قُل اللَّه يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ". وَقَدْ جمع لنا العدو، وقيل لنا: اخشوه فنقول: " حسبنا الله ونعم الوكيل ". وليس إلاّ الاستعانة بالله، فما دلنا فِي الشدائد إلا عَلَى طروق بابه، وعلى التضرُّع لَهُ {فَلَوْلا إِذْ جاءَهم بأسُنا تَضَرَّعُوا ولكن قست قُلوبهم} نعوذ بِاللَّه منَ القسوة، ومنَ القنوط منَ الرحمة، وما شرَّد الكَرَى، وطوَّل عَلَى الأفكار السَّرى، إلا ضائقة القُوت بعكا. وهذه الغَمَرات هي نعم اللَّه عليه، وهي درجات الرضوان، فاشكر اللَّه كَمَا تشكره عَلَى الفتوحات، وأعلم أن مثوبة الصَّبْر فوق مثوبة الشُّكر. ومِن ربط جأْش عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قوله: لو كَانَ الصَّبْر والشُّكر بعيرَين ما باليت أيُّهما ركِبت. وبهذه العزائم سبقونا فلا نطمع بالغبار، وامتدت خُطاهم، ونعوذ باللَّه منَ العثار. ومن وصايا الفرس: إن نزل بك ما فيه حيلة فلا تعجز، وإن نزل بك ما لَيْسَ فِيهِ حيلة فلا تجزع ".
ولما اشتد الأمر بعكا وطال أرسل السّلطان كتابًا إلى شمس الدين ابن منقذ يأمره بالمسير إلى صاحب المغرب يعقوب بْن يوسف بْن عَبْد المؤمِن يستنصر بِهِ، ليقطع عنه مادتهم من جهة البحر. ويأمر ابن منقذ أن يستقرئ فِي الطريق والبلاد ما يُحيي بِهِ الملك يعقوب وكيف عاداتهم. وأن يقص عليه: من أول وصولنا إلى مصر، وما أزلنا بها منَ الإلحاد، وما فتحنا من بلاد الفِرَنج وغيرها وتفصيل ذَلِكَ كله، وأمر عكّا، وأنه لا يمضي يوم إلا عَنْ قوَّة تتجدَّد وميرة فِي البحر تصل، وأن ثغرنا حصروه، ونحن حصرناهم، فَمَا تمكَّنوا من قتال الثغر، ولا تمكنوا من قتالنا وخندقوا عَلَى نفوسهم عدة خنادق، فَمَا تمكنا من قتالهم. وقدَّموا إلى الثغر أبرجة من خشب أحرقها أهله. وخرجوا مرَّتين إلينا يبغون غرَّتنا، ينصرنا اللَّه عليهم، ونقتلهم قتلًا ذريعًا، أجلت إحدى النَّوبتين عَنْ عشرين ألف قتيل منهم. والعدو وإن حصر الثغر فَإنَّهُ محصور، ولو أبرز صفحته لكان بإذن اللَّه هُوَ المكسور، ويذكر ما دخل الثغر من أساطيلنا ثلاث مرات وإحراقها مراكبهم، وهي الأكثر، ودخولها بالسيف الأظهر تنقل إلى البلد الميرة. وإن أمر العدو قَدْ تطاول ونجدته تتواصل، -[701]- ومنهم ملك الألمان فِي جموع جماهيرها مجمهرة وأموالها مقنطرة. وإن اللَّه سُبْحَانَهُ وتعالى قَدْ قصم طاغية الألمان، وأخذه أخْذ فرعون بالإغراق فِي نهر الدُّنْيَا، وإنهم لو أرسل اللَّه عليهم أسطولًا قويًا مستعدًا يقطع بحره، ويمنع ملكه، لأخذنا العدو بالجوع والحصر، أو القتال والنصر. فَإِن كَانَتْ بالجانب الغربي الأساطيل ميسَّرة، والرجال فِي اللقاء فارهة غير كارهة، فالبدار البدار، وأنت أيُّها الأمير أوّل منَ استخار اللَّه وسار، وما رأينا أهلًا لخطابنا، ولا كفؤًا لإنجادنا، إلاّ ذلك الجناب، فلم ندعه إلا لواجبٍ عليه. فقد كَانَتْ تتوقع منه همة تقدُ فِي الغرب نارها، ويستطير في الشرق سناؤها، ويغرس فِي العُدوة القصوى شجرتها، فينال من في العُدْوة الدُّنْيَا جناها، فلا ترضى همَّته أن يعين الكفر الكفر، ولا يعين الْإِسْلَام الْإِسْلَام. واختُص بالاستعانة لأن العدو جاره، والجار أقدر عَلَى الجار، وأهل الْجَنَّة أَوْلى بقتال أَهْل النار. ولأنه بحر والنجدة بحرية، ولا غرو أن تجيش البحار، وإن ذكر ما فعل بوزبا وقراقوش فِي أطراف المغرب، فيعرفه أنّهما ليسا من وجوه الأمراء، ولا منَ المعدودين فِي الطُّواشيَّة والأولياء، وإنما كسدت سوقهما، وتبعتهما ألفافٌ أمثالُهما. والعادة جارية أن العساكر إذ طالت ذيولها وكثُرت جُموعها، خرج منها وانضاف إليها، فلا يظهر مزيدها ولا نقصها. ولا كَانَ هذان المملوكان مِمَّنْ إذا غاب أحضر ولا إذا فقد افتقد، ولا يُقدر في مثلهما أنّهما مِمَّنْ يستطيع نكايةً، ولا يأتي بما يوجب شكوى من جناية. ومعاذ اللَّه أن نأمر مفسدًا يفسد فِي الأرض. واللَّه يوفق الأمير، ويهدي دليله، ويسهِّل سبيله. وكتب فِي شعبان سنة ستٍّ وثمانين ".
وأمّا الكتاب إِلَى صاحب المغرب فعنوانه: " بلاغ إلى محل التقوى الطاهر منَ الذَّنب، ومستقر حزب اللَّه الظاهر منَ الغرب، أعلا اللَّه بِهِ كلمة الْإِيمَان، ورفع بِهِ منار الإحسان "، وأوّله: بسم اللَّه الرَّحْمَن الرَّحيم، الفقير إلى رحمة ربه يوسف بْن أيوب، أما بعد، فالحمد للَّه الماضي المشية المُمضي القضية، البرُّ بالبريَّة، الحفيّ بالحنيفيَّة، الَّذِي استعمل عليها منَ استعمر بِهِ الأرض، وأغنى من أهلها من سأله القرض، وآجر من أجرى عَلَى يده النافلة -[702]- والفَرْض، وصلّى اللَّه عَلَى مُحَمَّد الَّذِي أنزل عليه كتابًا فِيهِ الشفاء والتبيان، إلى أن قال: وهذه التحية الطيبة وفادة عَلَى دار الملك، ومدار النُّسك، ومحل الجلالة، وأصل الأصالة، ورأس الرياسة، ونفس النفاسة، وعلم العلم، وقائم الدّين وقيمه، ومقدم الْإِسْلَام ومقدّمه، ومثبت المتقين عَلَى اليقين، ومُعلي الموحدين عَلَى الملحدين، أدام اللَّه لَهُ النُّصرة، وجهَّز بِهِ العُسرة وبسط لَهُ باع القدرة. تحية أستنير منها الكتاب، وأستنيب عنها الجواب، وحفز لها حافزان، أحدهما شوق قديم كان مطل غريمه ممكنًا إلى أن تتيسر الأسباب، والآخر مُرام عظيم ما كره إذا استفتِحت بِهِ الأبواب. وكان وقت المواصلة وموسم المكاتبة هناؤه بفتح بيت المقدس وعدة منَ الثغور، ولم تتأخر المكاتبة إلا لُيتِم اللَّه ما بدا من فضله، والمفتتح بيد اللَّه مُدن وأمصار، وبلاد كبار وصغار، والباقي بيد الكُفر مِنها أطرابُلُس، وصور، وأنطاكية، يسر اللَّه أمرها بعد أن كسر اللَّه العدو الكسرة التي لَمْ يجبر بعدها، ولم يؤخر فتح هَذِهِ المُدُن الثلاثة، إلا أن فرع الكُفار بالشام استصرخ بأصله، فأجابوهم رجالا وفرسانًا، وزرافات ووحدانا، وبرًا وبحرًا، ومركبًا وظهرًا، وسهلًا ووعرًا. وخرج كُلّ يلبي دعوة بطرَكه، ولا يحتاج إلى عزمة ملكه. ونزلوا عَلَى عكّا يمدهم البحر بأمداده، ويصل إلى المقاتل ما يحتاجه من سلاحه وأزواده، وعدتهم مائة ألف أو يزيدون، كلما أفناهم القتْل أخلفتهم النجدة.
قَالَ: واستمرَّ العدو يحاصر الثغر محصورًا مِنَّا أشد الحصر، لا يستطيع قتال الثغر لأنا من خلفه، ولا يستطيع الخروج إلينا خوفًا من حتفه، ولا نستطيع الدخول إِلَيْهِ لأنه قَدْ سور وخندق، وحاجز من وراء الحجرات وأغلق. ولما خرج ملك الألمان بجيشه وعاد عَلَى رسم قديم إلى الشام، فكان العَوْد لأُمة أحمد أَحْمَد. فظنوا أَنَّهُ يزعجنا فبعثنا إِلَيْهِ مَن تلقاه بعسكرنا الشمالي، فسلك ذات الشمال متوعرًا، وأظهر أَنَّهُ مريض. وكان أَبُوه الطاغية قَدْ هلك فِي طريقه غرقًا، وبقي ابنه المقدم المؤخر، وقائد الجمع المكسر، وربما وصلهم إلى ظاهر عكّا فِي البحر، تهيُّبًا أن يسلك البر، ولو سبق عساكرنا إلى عساكر الألمان قبل دخولها إلى أنطاكية لأخذوهم، ولكن للَّه المشيئة، ولما كَانَتْ حضرة سلطان الْإِسْلَام، وقائد المجاهدين إلى دار السلام، أَولى من توجَّهَ إِلَيْهِ الْإِسْلَام بشكواه وبثه، واستعان بِهِ عَلَى حماية نسْله وحَرْثه، وكانت مساعيه -[703]- ومساعي سَلَفه فِي الجهاد الغُرّ المحجَّلة، الكاشفة لكل مُعْضِلة، والأخبار بِذَلِك سائرة، والآثار ظاهرة.
إلى أن قَالَ: وكان المتوقَّع من تلك الدولة العالية، والعزمة الغادية مَعَ القدرة الوافية، والهمَّة المهديَّة الهادية، أن يمد غرب الْإِسْلَام المسلمين بأكثر مما أمد بِهِ غرْب الكفار الكافرين. فيملأها عليهم جواري كالأعلام، ومدنًا في اللجج كأَنَّها الليالي مقلعة بالأيام، تطلع علينا آمالًا، وعلى الكفر آجالا، وتردنا إما جملة وإما أَرسالًا ولما استُبْطِئْتَ ظُنَّ أنها قَدْ توقفت عَلَى الاستدعاء، فصرحنا بِهِ فِي هذه التحية، وسُير لحصون مجلسه الأطهر، ومحلَّه الأنور، الأمير الأجل المجاهد شمس الدّين أَبُو الحَرَم عَبْد الرَّحْمَن بْن منقذ، الهدية إليه ختمة في ربعة، وثلاثمائة مثقال مسك، وستمائة حبة عنبر، وعشرة أمنان عود دهن بلسان مائة درهم، مائة قوس بأوتارها، عشرون سرجًا، عشرون سيفًا، سبع مائة سهم.
وكان دخوله عَلَى يعقوب فِي العشرين من ذِي الحجة بمرّاكُش، فأقام سنة وعشرين يومًا، وخرج وقدم الإسكندرية فِي جُمادى الآخرة سنة ثمانٍ وثمانين، ولم يحصل الغرض، لأنه عزَّ عَلَى يعقوب كونه لَمْ يُخاطب بأمير المؤمنين.
وقد مدحه ابن منقذ بقصيدةٍ منها:
سأشكر بحرًا ذا عُبابٍ قطعته ... إلى بحر جود ما لنعماه ساحلُ
إلى معدن التقوى إلى كعبة الهدى ... إلى مَن سَمَت بالذِّكر منه الأوائِلُ
وكان السّلطان صلاح الدّين قَدْ هُمْ بأن يكتب إِلَيْهِ بأمير المؤمنين، فكتب إلى السّلطان القاضي الفاضل يَقُولُ: " والمملوك لَيْسَ عِنْد المولى من أَهْل الاتهام، والهدية المغربية نجزت كَمَا أمر به ". وكتب الكتاب عَلَى ما مثل، وفخَّم الوصف فوق العادة، وعند وصول الأمير نجم الدّين فاوضته فِي أَنَّهُ لا يمكن إلا التعريض لا التصريح بما وقع لَهُ أَنَّهُ لا تنجح الحاجة إلا بِهِ من لفظة أمير المؤمنين، وأن الذين أشاروا بهذا ما قَالُوا نقلًا، ولا عرفوا مكاتبة المصريين قديمًا. وآخر ما كتب فِي أيام الصالح بْن رُزّيك، فخوطب بِهِ أكبر أولاد عَبْد المؤمن وولي عهده بالأمير الأصيل النِّجار، الجسيم الفخار. وعادت -[704]- الأجوبة إلى ابن رُزيك الَّذِي فِي أتباع مولانا مائة مثله، مترجمة بمعظِّم أمره، وملتزِم شكره. هَذَا والصّالح يتوقَّع أن يأخذ ابن عَبْد المؤمنَ البلاد من يديه، ما هُوَ أن يهرب مملوكان طريدان مِنَّا فيستوليان عَلَى أطراف بلاده، ويصل المشار إِلَيْهِ بالأمر من مَرّاكُش إلى القيروان، فيلقاهم فيُكسر مرة ويتماسك أخرى وأُعلم نجم الدّين بِذَلِك فأمسك مقدار عشرة أيام. ثُمَّ أنفذ نجم الدّين إِلَيْهِ عَلَى يد ابن الجليس بأن الهدية أُشير عليه بأن لا يستصحبها، وإن استصحبها تكون هدية برسم مَن حواليه، وأنَّ الكتاب لا يأخذه إلا بتصريح أمير المؤمنين، وأن السّلطان - عز نصرُه - رسم بِذَلِك، والملك العادل بأن لا يشير إلا بِذَلِك، وأَنَّهُ إذا لقي القوم خاطبهم بهذه التحية عَنِ السّلطان من لسانه، فأجابه المملوك بأن الخطاب وحده يكفي، وطريق جحدنا له ممكن، وإن الكتابة حجة تقيد اللسان عَنِ الإنكار، فلا ينبغي. ومتى قُرئت عَلَى منبر الغرب جُعلنا خالعين شاقين عصا المسلمين، مطيعين مَن لا تجوز طاعته ويفتح باب يعجز موارده عَنِ الإصدار، بل تمضي وتكشف الأحوال، فإنْ رَأَيْت للقوم شَوْكة، ولنا زبدة، فِعدْهم بهذه المخاطبة، واجعل كلما نأخذه ثمنًا للوعد بها خاصة فامتنع وقَالَ: أَنَا أقضي أشغالي، وأتوجه للإسكندرية، وأنتظر جواب السّلطان، وإلى أن أنجز أمر الموكب وأمر الركاب، فسيَّر المملوك النسخة فَإِن وافقت فيتصدَّق المولى بترجمة يلصقها عَلَى ما كتبه المملوك، ويأمر نجم الدّين بتسلم الكتاب، مَعَ أن ابن الجليس حدَّثه عَنْهُ أَنَّهُ ممتنع منَ السفر إلا بالمكاتبة بها. فأما الَّذِي يترجم بِهِ مولانا فيكون مثل الَّذِي يُدعى بِهِ عَلَى المنبر لمولانا، وَهُوَ الفقير إلى اللَّه تَعَالَى يوسف بْن أيوب. وَإِذَا كتب إليهم ابن رُزّيك منَ السيد الأجَلّ، الملك الصالح، قُبح أن يكتب إِلَيْهِ مولانا الخادم. وهذا مبلغ رأي المملوك وَقَدْ كتبت النسخة، ولم يبق إلا تلك اللفظة، وليست كتابة المملوك لها شرطًا، والمملوك وعقبه مستجيرون بِاللَّه، ثُمَّ بالسلطان من تعريضهم لكدر الحياة، ومعاداة مَن لا يُخفى عَنْهُ خبر، ولا تُقال بِهِ عَثْرَة. والكُتّاب الذين يشتغلون بتبييض النسخة موجودون، فينوبون عَنِ المملوك ". -[705]-
ومن كتاب له إلى السّلطان: " تبرَّم مولانا بكثرة المطالبات، لا أخلاه اللَّه منَ القُدْرَة عليها، وهنيئًا لَهُ. فاللَّه تَعَالَى يطالبه بحفظ دينه، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يطالبه بحفظ حسن الخلافة فِي أمّته، والسَّلَف يطالبونه بمباشرة ما لو حضروه لما زادوا عَلَى ما يفعله المولى، وأهل الحزب يطالبونه بالذَّهب والفِضَّة والحديد، والرعيَّة تطالبه بالأمن فِي سربهم، والاستقامة فِي كسْبهم، والسلامة فِي سُبُلهم، ونفسه الكريمة تطالبه بالجنَّة، فهل عدم منَ اللَّه نُصرة؟ أم هَلِ استمرَّت بِهِ عُسرة؟ أم هَلْ تمَّت عليه لعدوه كرَّة؟ هل بات إلا راجيًا؟ هل أصبح إلا راضيًا "؟ إلى أن قَالَ: والمشهور أن ملك الألمان خرج فِي مائتي ألف، وأَنَّهُ الآن فِي دون خمسة آلاف.
قُلْتُ: وأُنبئِت عَنِ العماد الكاتب قَالَ: ووصلت فِي مراكب ثلاثمائة إفرنجيَّة من ملاحِهِم الزَّوَاني قَدْ سَبَلْنَ أنفسهن لعسكر الفِرَنج تغريةً لإسعاف الشباب من كُلّ تائقةٍ شائقة، مائقةٍ رائقة، رامقة مارقة، تميس كأنها قضيب، وتزينت وعلى لبها صليب، فتحنَ أبواب الملاذ، وسَبَلنَ ما بَيْنَ الأفخاذ ".
وفيها في المحرَّم خرجت جيوش بغداد، ومقدمها نجاح الشرابي إلى دقُوقًا لقتال الملك طُغرل، فوجدوه بعد أيام أدخل ولده ابن سبْع سِنين، يطلب العفو لأبيه، فعفا عنه.
وأنبأنا ابن البُزُوري قَالَ: فِي ربيع الأوّل وُلدت امْرَأَة ابنين وبنتين فِي جوفٍ واحد.
وَفِي جُمادى الآخرة فِي العشرين منه خرجت جيوش الفِرَنج من وراء خنادقهم، وحملوا عَلَى الملك العادل والمصريين فالتقوهم، واشتد القتال، فتقهقر المصريون، ودخل الفِرَنج خيامهم ونهبوها، فكرَّ المصريون عليهم فقاتلوهم بَيْنَ الخيام، وذهبت فرقة منَ المسلمين، فوقفت عَلَى فم الخندق تمنع من يَخْرُج مددًا، وأخذت الفِرَنج السُّيُوفُ من كُلّ ناحيةٍ، فَقُتِلَ منهم مقتلة عظيمة فوق العشرة آلاف؛ وقيل: ثمانية آلاف؛ وأقل ما قِيلَ خمسة آلاف. -[706]-
وقُتل منَ المسلمين نحو عشرة أنفس فقط. وكان يومًا مشهودًا حاز فضله المصريون.
وجاءت الأخبار منَ الغد بموت ملك الألمان، وبالوباء فِي أصحابه، وتباشر المسلمون، وفرحوا بنصر اللَّه، فجاءت الفِرَنج نجدةٌ كبيرة لَمْ تكن فِي حسْبانهم مَعَ ملكهم كنْدهري، وجاءتهم أموال كثيرة وميرة وأسلحة، فقويت نفوسهم. وأنتنت منزلة المسلمين بريح القتلى، فانتقل صلاح الدّين، إلى الخرُّوبة فِي السابع والعشرين من جُمادى الآخرة، كَمَا انتقل عام أول. وقلَّت الأقوات بعكا، فبعث السّلطان إلى متولي بيروت فجهَّز بُطْسة عظيمة، وألبس الرجال لُبس الفِرَنج، ورفعوا الصُّلبان بالبطْسة، فوصلت إلى عكّا، فلم يشك الفِرَنج أنّها لهم، ولم يتعرضوا لها، فلما حاذت ميناء عكا ودخلت ندمت الفرنج، وانتعش المسلمون.
وَفِي شوال خرجت الفِرَنج من وراء خنادقهم فِي أكمل أُهبة وأكثر عدد، فالتقاهم السّلطان فِي تعبئةٍ حسنةٍ، فكان أولاده فِي القلب، وأخوه الملك العادل فِي الميمنة، وابن أَخِيهِ تقي الدّين عُمَر، وصاحب سِنْجار عماد الدّين في الميسرة. واتفق للسلطان قولنج كان يعتريه، فنُصبت لَهُ خيمة عَلَى تل، فرأى الفِرَنج ما لا قِبَل لهم بِهِ فتقهقروا.
قَالَ ابن الأثير: لولا الألم الَّذِي حدث لصلاح الدّين لكانت هِيَ الفيصل، وإنما للَّه أمر هُوَ بالِغُه. فلما دخل الفرنج خنادقهم، ولم يكن لهم بعدها ظهور منه، عاد المسلمون إلى خيامهم وَقَدْ قتلوا منَ الفِرَنج خلقًا يومئذٍ. إلا أن فِي الثالث والعشرين من شوال تعرَّض عسكر منَ المسلمين للفرنج، فخرج إليهم أربعمائة فارس فناوشوهم القتال وتطاردوا، فتبعهم الفِرَنج، فخرج كمين للمسلمين عليهم فلم يفلت منهم أحد.
واشتدّ الغلاء عَلَى الفِرَنج، وجاء الشِّتَاء، وانقطعت مادة البحر لهيجه، ولولا أن بعض الجهال كانوا يجلبون إليهم الغلات لأن الغرارة بلغت عندهم ألف دِرْهَم، لكانوا هلكوا جوعًا.
وأرسل أَهْل عكّا يشكون الضَّجَر والسّآمة، فأمر السّلطان بإخراجهم، -[707]- وإقامة البَدَل، وكان ذَلِكَ من أسباب أخْذها. فأشار الجماعة عليه بأن يرسل إليهم النفقات الواسعة والذخائر، فإنهم قَدْ تدربوا، واطمأنت نفوسهم، فلم يفعل وتوهم فيهم الضَّجَر، وأن ذَلِكَ يحملهم على العجز. وكان بها أبو الهيجاء السمين، فنزل الملك العادل تحت جبل حَيْفا، وجمع المراكب والشواني، فكان يبعث فيها عسكرًا، ويرد عِوَضهم من عكّا فِي المراكب، لكنْ كَانَ بها ستون أميرًا، فخرج أولئك، ودخل بدلهم عشرون أميرًا، فكان ذَلِكَ منَ التفريط أيضًا. وتوانى أيضا صلاح الدّين، واتكل عَلَى غيره. وكان رأس الذين دخلوا سيف الدّين عَلِي المشطوب، وكان دخولهم فِي أوّل سنة سبْع وكان بها زهاء عشرين ألفًا. ولم يخرج قراقوش. وجهز السّلطان لعكا إقامةً كبيرةً وقُوتَ سنة، ولكن كان البحر فِي هيجه، فتكسرت عامة المراكب.