قَالَ ابن البُزُوريّ: فِي صَفَر كُفَّت يد عبد الوهاب ابن الشَّيْخ عَبْد القادر عَنْ وقف الجهة الإخلاطية سلجق خاتون. ووجد عِنْد ابنه عَبْد السلام كُتُب بخط والده عَبْد الوهَّاب فيها يتخيَّر الكواكب، فسُئل: هَلْ هِيَ بخطك؟ فأقر، فأفتوا بقلة دينه، وأن الكاتب لها والقارئ لها مخطئ، ومُعتقدها كافر. وعُرضت -[711]- الفتاوى عَلَى الخليفة فاستُتيب، وأُحرقت الكتُب فِي محفل. وكان فيها أنْ لا مدبِّر للعالم سوى الكواكب، وأنها هي الرازقة. ووهت حًرمة بني عبد القادر، وأُخرجوا عَنْ مدرستهم، وسُلمت إلى ابن الجوزي.
وفيها عُزل قاضي القُضاة الْعَبَّاسيّ لأنه حكم فِي كتابٍ زوّره حاجبه أَبُو جَعْفَر وابن الحراني.
وفيها نفذ شهاب الدّين السَّهْرُوَرْديّ رسولًا إلى زعيم خلاط بكتمر.
وفي رجب عُقد مجلس بدار أستاذدار الخليفة، وأحضر أمير الحاج مُجِير الدّين طاشتِكِين متولي الحلَّة، ثُمَّ أُخرج مكتوب فِيهِ الخادم طاشتكين يخدم السّلطان ويقول: أنا مشدود الوسط فِي خدمتكم، وهذا وقتكم، والبلاد خالية، فإذا هادنت الفِرَنج وعدت إلى الشام فأنا أتولى الخدمة. وَقَدْ توج المكتوب بالقلم الشريف: إنا ما أسأنا إلى طاشتِكِين قطّ وله حقوق، غير أن باطنه رديء ما يحبنا. فأنكر طاشتكين، وزعم أن هذا الخط لايعرفه. فشهد عليه جماعة ممن يختص بِهِ وكذَّبوه. فحُبس، وكان لَهُ إلى هَذِهِ السنة تسع عشرة حجة. ووُلي أيلبا إمرة الحاج.
وبنى الخليفة دارًا هائلة مزخرفة فِي بستانها منَ الطير والوحش ما يبهت الرّائي. فَلَمَّا انتهت وهبها لولده أبي نصر محمد.
وفيها فِي المحرَّم، أعني سنة ثمانٍ، نزل الفِرَنج بعسقلان وهي خراب، فأخذوا فِي عمارتها.
وَفِي ربيع الآخر قُتل المركيس صاحب صور، وكان من شياطين الفِرَنج، قدِم منَ البحر في مركبٍ بمالٍ وتجارة أيام فتح بيت المَقْدِس، فدخل صور وأهلها فِي هَرج ومرج، وليس لهم رأس، فملّكوه عليهم، فقام بأمرهم أتم قيام، وضبط البلد وحصَّنها، وحاصرهم صلاح الدّين مدة بعد فتح بيت المَقْدِس فلم يقدر عليهم، فجرد عَلَى البلد من يضيِّق عليهم ورحل.
وكان المركيس أحد من بالغ فِي حصار عكّا. وكان سبب قتله أن سِنانًا مقدم الإسماعيلية بعث إِلَيْهِ صلاح الدّين أن يرسل من يقتل ملك الإنكلتار، وإنْ قُتِلَ المركيس فَلَه عشرة آلاف دينار. فأرسل رجلين فِي زي الرهبان، فاتصلا بصاحب صيدا، فأظهرا العبادة، فأنِس بهما المركيس، ووثق لهما -[712]- فقتلاه، وقُتلا معه. وتملَّك صور بعده كنْدهري ابن أخت ملك الأنكلتار، فبقي إلى سنة أربع وتسعين، فسقط من سطح ومات. وكان لما رحل خاله إلى بلاده أرسل يستعطف صلاح الدّين ويطلب منه خِلْعةً وقَالَ: أَنْت تعلم أن لبس القباء والشربُوش عندنا عَيب، وأنا ألبسهما منك محبةً فيك. فنفذ إِلَيْهِ خِلْعةً سَنِيَّة بشَرَبُوش، فلبسها بعكا.
وفيها فِي صَفَر نهبت بنو عامر البصرة. تجمعوا مَعَ أميرهم عُميرة، وكان بها أمير فحاربهم، فلم يقو بهم، وَقُتِلَ جماعة، ودخلوها وفعلوا كُلّ قبيح، وذهبت أمتعة الناس.
وفيها فِي جُمادى الأولى استولت الفِرَنج عَلَى حصن الداروم، ثُمَّ ساروا حَتَّى بَقُوا عَلَى فرسَخَين منَ القدس، فصب المسلمون عليهم البلاء، وتابعوا إرسال السّرايا، وبُلي الفِرَنج منهم بداهيةٍ، فرجعوا وتخطفهم المسلمون.
وكان شهاب الدّين الغُوري غزا الهند فِي سنة ثلاثٍ وثمانين فانهزم، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ السنة خرج من غزنَة بجيوشه، وقصد عدوه، فتجهَّز الكافر ملك الهند وسار نحوه، فلما قاربه تقهقر شهاب الدّين، وتبِعه ملك الهند إلى أن قارب بلاد المسلمين، فندب شهاب الدّين شطر جيشه، فداروا فِي الليل حَتَّى صاروا من وراء الهنود، وحمل منَ الغد هُوَ من بَيْنَ أيديهم وأولئك من خلفهم، وكثُر القتل فِي الهنود، وأُسر ملكهم فِي خلقٍ من جُنْده، وغنم المسلمون ما لا يوصف. ومن ذَلِكَ أربعة عشر فيلًا، فَقَالَ ملك الهند: إن كُنْت طالبًا بلادنا فما بقي فيها من يحفظها، وإنْ كُنْت طَالِب مالٍ فعندي أموال تحمل منها جمالك كلها. فسار شهاب الدين، وهو معه، إلى قلعته واسمها أجمير، فتملكها شهاب الدّين وتملك جميع نواحيها، وأقطع الجميع لمملوكه قُطب الدّين أيْبك. وَقُتِلَ ملك الهند، ورجع إلى غزنة مؤيدًا منصورًا.
وكان عسكر مصر قَدْ خرجوا للغزاة فأقاموا ببِلْبِيس حَتَّى اجتمعت إليهم القوافل، وساروا فِي الرمل، فتهيَّأت الفِرَنج لكبْسهم وكمنوا لهم، ثُمَّ بيَّتوهم بأرض الحسا. فطاف الإنكلتير حول القَفَل فِي صورة بدوي، فرآهم ساكنين، فكبسهم فِي السَّحر بخيله ورَجْله، فكان الشجاع من نجا بنفسه. وكانت وقعة شنعاء لَمْ يُصب النّاس بمِثلها فِي هَذِهِ السنين. وتبدَّد النّاس فِي البريَّة وهلكوا، -[713]- وحازت الفِرَنج أموالًا وأمتعة لا تُحصى، وأسروا خمسمائة نفس، ونحو ثلاثة آلاف جَمَلٍ محملة، فقويت نفوس الملاعين بالظَّفَر والغنائم، وعزموا عَلَى قصد القدس. وسار كنْدهري إلى صور، وطرابُلُس، وعكا، يستنفر النّاس، فهيَّأ السّلطان القدس وحصَّنها للحصار، وأفسد المياه التي بظاهر القدس كلها، وجمع الأمراء للمشورة، قال القاضي بهاء الدّين بْن شدّاد: فأمرني أن أحثهم عَلَى الجهاد، فَذَكَرَتْ ما يسَّر اللَّه، وقلت: أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اشتد بِهِ الأمر بايع الصحابة عَلَى الموت، ونحن أول من تأسى به، فنجتمع عِنْد الصَّخرة، ونتحالف عَلَى الموت. فوافقوا عَلَى ذَلِكَ. وسكت السّلطان طويلًا، والناس كَأَنّ عَلَى رؤوسهم الطير، ثُمَّ قَالَ: الحمد للَّه والصلاة عَلَى رسول اللَّه. اعلموا أنكم جُنْد الْإِسْلَام اليوم ومَنعته، وأنتم تعلمون أن دماء المسلمين وأموالهم وذراريهم متعلقة فِي ذمَّتكم. وإن هَذَا العدو لَيْسَ لَهُ مَن يلقاه غيركم، فلو لوَيْتم أَعِنَّتكم، والعياذ بالله، طوى البلاد، وكان ذلك في ذمّتكم، فإنكم أنتم الذين تصدَّيْتم لهذا، وأكلتم بيت مال المسلمين. فانتدب لجوابه سيف الدّين المشطوب وقَالَ: نَحْنُ مماليكك وعبيدك، وأنت الَّذِي أنعمت علينا وعظَّمتنا، وليس لنا إلا رقابنا، وهي بَيْنَ يديك؛ واللَّه ما يرجع أحدٌ منَّا عَنْ نُصرتك إلى أن يموت. فَقَالَ الجماعة مثل ما قَالَ، فانبسطت نفس السّلطان وأطعمهم، ثُمَّ انصرفوا. فَلَمَّا كَانَ عشاء الآخرة اجتمعنا فِي خدمته عَلَى العادة وسَمَرْنا وهو غير منبسط. ثمّ صلينا العشاء الآخرة، وكانت الصَّلاة هِيَ الدُّستور العامّ، فصلّينا وأخذنا فِي الانصراف فاستدعاني وقَالَ: أَعَلِمتَ ما تجدَّد؟ قلت: لا. قال: إن أبا الهيجاء السمين نفذ إليّ اليوم وقَالَ: اجتمع اليوم عنده الأمراء، وأنكروا موافقتنا عَلَى الحصار، وقالوا: لا مصلحة فِي ذَلِكَ، فإنَّا نُحصر ويجري علينا ما جرى عَلَى أَهْل عكّا، وعند ذَلِكَ تؤخذ بلاد الْإِسْلَام أجمع. والرأي أنْ نعمل مُصَافًّا، فإنْ هزمْناهم مَلَكْنا بقية بلادهم، وإنْ تكن الأخرى سلِم العسكر وذهب القدس. وَقَدِ انحفظت بلاد الْإِسْلَام وعساكرها مدة بغير القدس. وكان السّلطان - رحِمَه اللَّه - عنده منَ القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال، فشقَّت عليه هَذِهِ الرسالة. وبت تِلْكَ الليلة فِي خدمته إلى الصباح، -[714]- وهي منَ الليالي التي أحياها فِي سبيل اللَّه.
وكان مما قالوه فِي الرسالة: " إنك إن أردتنا نقيم بالقدس فتكون أَنْت معنا أَوْ بعض أهلك، وإلا فالأكراد لا يدينون للأتراك، ولا الأتراك يدينون للأكراد ". فانفصل الحال على أن يقيم من أهله الملك مجد الدين صاحب بِعْلَبَكّ.
وكان رحِمَه اللَّه يحدِّث نفسه بالمُقام، ثُمَّ امتنع من ذَلِكَ لما فِيهِ من خطر الإسلام، فَلَمَّا صلّينا الصُّبح قُلْتُ لَهُ: ينبغي أن ترجع إلى اللَّه تَعَالَى، وهذا يوم جمعة، وفيه دعوة مُستجابة، ونحن فِي أَبْرك موضع. فالسلطان يغتسل الجمعة ويتصدَّق بشيء سرًا، وتصلي بَيْنَ الأذان والإقامة ركعتين تناجي فيهما ربَّك، وتفوِّض مقاليد أمورك إِلَيْهِ، وتعترف بعجْزك عما تصدَّيْت لَهُ، فلعله يرحمك ويستجيب لك. وكان رحِمَه اللَّه حَسَن الاعتقاد، تام الْإِيمَان، يتلقى الأمور الشرعيَّة بأحسن انقياد. فَلَمَّا كَانَ وقت الجمعة صليت إلى جانبه فِي الأقصى، وصلى ركعتين، ورأيته ساجدًا ودموعه تتقاطر. ثُمَّ انقضت الجمعة. فَلَمَّا كَانَ العشِيّ وصلت رقعة من عز الدّين جرديك، وكان فِي اليَزَك، يَقُولُ فيها: إن القوم قَدْ ركبوا بأسرهم، ووقفوا فِي البر عَلَى ظهر، ثُمَّ عادوا إلى خيامهم، وقد سيرنا جواسيس تكشف.
ولما كَانَ منَ الغد يوم السبت، وَهُوَ الحادي والعشرين من جُمادى الآخرة، وصلت رقعةٌ أخرى تُخْبر أنّ الجواسيس رجعوا، وأخبروا أنّ القوم اختلفوا فِي الصُّعود إلى القدس أَوِ الرحيل إلى بلادهم، فذهب الفرنسيسة إلى الصّعود إلى القدس وقالوا: إنما جئنا بسببه ولا نرجع. وقال الإنكلتير: إنّ هَذَا الموضع قَدْ أُفسِدت مياهُه ولم يبق حوله ماء، فَمنْ أَيْنَ نشرب؟ قَالُوا: نشرب من نهر نقوع، وهو على فرسخ من القدس؛ فقال: كيف نذهب إليه؟ قالوا: نتقسم، فقسم يذهب إلى السَّقْيِ، وقسم يبقى عَلَى البلد، فَقَالَ: إذًا يأخذ العسكر البرّانيّ الَّذِي لهم من يذهب مَعَ الدواب، ويخرج عسكر البلد عَلَى الباقين. فانفصل الحال على أنهم حكموا ثلاثمائة من أعيانهم، وحكم الثلاثمائة اثني عشر منهم، وحكَم الاثنا عشر ثلاثة منهم، وَقَدْ باتوا عَلَى حكم -[715]- الثلاثة. فَلَمَّا أصبحوا حَكَموا عليهم بالرحيل، فلم يمكنهم المخالفة، فرحلوا ليومهم، وَهُوَ يوم السبت المذكور، نحو الرملة، ناكصين عَلَى أعقابهم. ثُمَّ نزلوا الرملة، وتواتر الخبر بِذَلِك إلى السّلطان، وكان يوم فرحٍ وسرور.
ثُمَّ ورد رسول الإنكلتير فِي الصُّلْح يَقُولُ: قَدْ هلكنا نَحْنُ وأنتم، والأصلح حَقْن الدماء، ولا تغتر بتأخيري عَنْ منزلتي، فالكبش يتأخَّر لينطح. وهذا ابن أختي كنْدهري قَدْ ملَّكْته هَذِهِ الديار، وسلمته إليك يكون بحكمك. وإنّ جماعة منَ الرُّهْبان قَدْ طلبوا منك كنائس، فَمَا بخلت بها عليهم، وأنا أطلب منك كنيسة في القدس، وما راسلتك بِهِ مَعَ الملك العادل قَدْ تركته، يعني من طلبه القدس وغيرها، ولو أعطيتني قرية أَوْ مقرعة لقبِلْتها. فاستشار السّلطان الأمراء، فأشاروا بالصّلح لِما بهم منَ الضَّجَر والتّعب وعلاهم من الديون. فاستقر الحال على أنّ الجواب ما جزاء الإحسان إلا الإحسان، وابن أختك يكون كبعض أولادي، وسيبلغك ما أفعل معه، وأنا أعطيك أكبر الكنائس، وهي القمامة، والبلاد التي بيدك بيدك، وما بأيدينا منَ القلاع الجبلية يكون لنا، وما بين العملين يكون مناصفة، وعسقلان وما وراءها يكون خرابًا.
فانفصل الرَّسُول طيب القلب. ثُمَّ ورد رسوله يَقُولُ: أن يكون لنا فِي القدس عشرون نفرًا، وإن من سَكَن منَ النَّصارى والفِرَنج فِي القدس لا يُتعرض لهم، وأمّا بقية البلاد فلنا منها الساحليات والوطاة، والبلاد الجبلية لكم. فأجابه السّلطان بأن القدس لَيْسَ لكم فِيهِ سوى الزيارة. فَقَالَ الرَّسُول: وليس عَلَى الزّوّار شيء؟ فَقَالَ السّلطان: نعم. وأطلق لهم بلاد عسقلان يزرعونها، وأن تكون قرى الدّاروم مناصفة.
وفيها قسم السّلطان صلاح الدّين عمارة سور بيت المَقْدِس عَلَى أَخِيهِ وأولاد أَخِيهِ. ولم يزل مُجدًا في عمارتها حتى ارتفعت.
وفيها كان خلاص سيف الدّين علي المشطوب أمير عكّا منَ الأسر عَلَى مالٍ قرَّره. ثُمَّ مات فِي آخر شوال. فعين السّلطان ثُلث نابلس لمصالح بيت المَقْدِس وباقيها للأمير عماد الدّين أحمد ابن المرحوم سيف الدّين المشطوب. -[716]-
وفيها نازل الفِرَنج قلعة الدّاروم وافتتحوها بالسيف. ثُمَّ كَانَتْ وقعات بينهم وبين المسلمين، كلها للمسلمين عليهم، إلا وقعة واحدة كَانَ العادل أخو السّلطان مقدمها، ودهمهم العدو فهزموهم.
وفيها نزل السّلطان عَلَى يافا وأخذها بالسيف، وأخذ القلعة بالأمان، ثم طولوا ساعات الانتقال وأمهلوا وسوفوا، حتى جاءهم ملك الإنكلتير نجدةً فِي البحر بغتةً، ودخل القلعة وغدروا، فأسر السّلطان من كان خرج منهم، وسار إلى الرملة.
ثُمَّ وقعت الهدنة بينه وبين الفِرَنج مدة ثلاث سِنين وثمانية أشهر، وَجَعَل لهم من يافا إلى قَيْساريَّة إلى عكّا، إلى صور. وأدخلوا فِي الصلح طرابُلُس، وأنطاكية، واستعاد منهم الدّاروم؛ ودخل فِي هَذَا الصلح وَهُوَ كارْهٌ يأكل يديه منَ الحنق والغَيظ ولكنه عجز وكثُرت عليه الفِرَنج. وكُتِب كتاب الصلح بَيْنَ الملَّتَيْن فِي الثاني والعشرين من شعبان. ووقعت الأَيْمان والمواثيق عَلَى ذَلِكَ منَ الفريقين، ونوديَ بِذَلِك.
وكان فِي جملة من حضر عِنْد صلاح الدّين صاحب الرملة، فَقَالَ لصلاح الدّين: ما عمل أحدُ ما عملت، إننا أحصينا من خرج إلينا فِي البحر منَ المقاتلة فكانوا ستّمائة ألف رَجُل، ما عاد منهم إلى بلادهم من كُلّ عشرة واحد، بعضهم قُتِلوا، وبعضهم مات، وبعضهم غرق.
وأذِن صلاح الدّين فِي زيارة القدس للفرنج، وتردَّدت الرُّسل بين السّلطان وبين الفرنج. ثم سار فنزل بالعوجاء، وبلغه أن الإنكلتير بظاهر يافا في نفر يسير، فساق ليكبسه، فأتى فوجد نحو عشر خيم، فحمل السّلطان عليهم، فثبتوا ولم يتحرَّكوا، وكشروا عَنْ أنياب الحرب، فارتاع عسكر السّلطان وهابوهم، وداروا حولهم حلقة. وكانت عدة الخيل سبعة عشر، والرجالة ثلاثمائة. فوجَدَ السّلطان من ذَلِكَ وتألَّم، ودار عَلَى جُنْده ينخّيهم عَلَى الحملة، فلم يُجِب دعاءه سوى ولده الملك الظاهر. وقَالَ للسّلطان الجناح أخو سيف الدّين المشطوب: قل لغلمانك الذين ضربوا النّاس يوم فتح يافا وأخذوا منهم الغنيمة يحملون. وكان فِي نفوس العسكر غَيْظ عَلَى السّلطان حيث فوَّتهم الغنيمة. فغضب السّلطان وأعرض عن القتال. وذُكر أن الإنكلتير -[717]- حمل يومئذٍ بُرمحه من طرف الميمنة على طرف الميسرة، وما تعرَّض لَهُ أحد. فرد السّلطان وسار إلى النطرون ثُمَّ إلى القدس.
ومرض الإنكلتير، وكانت رسُله تتردد فِي طلب الخَوْخ والكُمِّثْرَى، وكان السّلطان يمده بِذَلِك وبالثلج. ثُمَّ عُقدت الهدنة وتوثق منَ الفريقين، فحلف جماعة من ملوك الفرنج ومن ملوك الْإِسْلَام من آل السّلطان ومن أمرائه الأعيان، وكان يوم الصلح يومًا مشهودًا، عمَّ الفرح هَؤُلَاءِ وهَؤُلاءِ. ورجع إلى القدس فتمَّم أسواره ودخل دمشق في شوال.
وفيها قُتل سلطان الروم قلِج أرسلان.