في أوّلها قدِم فرج الخادم شِحْنة أصبهان رسولًا منَ السّلطان طُغرُل، فقدم تُحفًا وهدايا، ومضمون الرسالة الاستغفار والاعتذار، لاجئا إلى الديوان لتقال عثرَتُه.
وَفِي صَفَر أمر الخليفة بالدعاء بالخُطبة لولي عهده أَبِي نصر مُحَمَّد، ونقش اسمه عَلَى الدينار والدرهم، وأن يُكتب بِذَلِك إلى سائر البلاد.
وَفِي صَفَر أيضًا وُلي أَبُو المظفّر عُبيد اللَّه بْن يُونُس الَّذِي كَانَ وزيرًا وكسره طغرُل صدرًا بالمخزن المعمور.
وفيه عُزل الوزير ابن حديدة. وكانت ولايته أقل من شهر.
وفي ربيع الأول وصل القاسم ابن الشهرَزُوريّ رسولًا منَ السّلطان صلاح الدّين وصُحبته صليب الصَّلبُوت التي تزعم النَّصارى أن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامَ صُلب عليه. فأُلقي بَيْنَ يدي عتبة باب النُّوبيّ، فبقي أيامًا.
وَفِي جُمادى توجه مُجير الدّين طاشتكين الحاجّ فِي جيشٍ فنزل عَلَى قلعة الحديثة وحاصرها.
وفي رجب قُلِّد مؤيد الدّين محمد ابن القصاب نيابة الوزارة.
وَفِي شوال قُتل زعيم قلعة تكْريت، وتسلمها نواب الخليفة.
وَفِي ذِي القعدة عُزل صدر المخزن أَبُو المظفَّر عُبيد اللَّه بن يونس.
وفيها وصل جماعة منَ الفِرَنج شبابُ مِلاح مُرد فِي القيود من جهة صلاح الدّين إلى الديوان الْعَزِيز، فَقَالَ فيهم قِوام الدّين يحيى بن زبادة:
أفدي بُدُورًا عَلَى غصونٍ ... أسْرَى يُقادون فِي القيود
قَدْ نُظموا فِي الحِبال حَسرى ... نظْم الجُمانات فِي العقود
إنْ سكنوا هَؤُلَاءِ نارًا ... فهي إذًا جنّة الخلود
وفيها سار السّلطان صلاح الدّين من عكّا إلى دمشق فدخلها فِي صفر، ثُمَّ توجَّه إلى شَقِيف أرنُون فأقام بمرج برغوث أيامًا، ثُمَّ أتى مَرْج عيون، فنزل -[688]- أرناط صاحب الشقيف صيدا إلى خدمة السّلطان فخلع عليه واحترمه، وكان من أكبر الفِرَنج وكان يعرف العربية، وله معرفة بالتواريخ، فسلم الحصن من غير تعب وقَالَ: لا أقدر أُساكن الفِرَنج، والتمس المُقام بدمشق، ثُمَّ بدا منه غدر فقبض عليه وحبسه بدمشق، ووكل بالحصن من يحاصره، ثم بلغ السّلطان أن الفِرَنج قَدْ جمعوا وحشدوا وجيشوا من مدينة صور، وساروا لحصار صيدا وعكا ليستردوها، فسار إليهم فالتقاهم، فَظَهَر الفِرَنج وقُتل فِي سبيل اللَّه طائفة. ثُمَّ كر المسلمون عليهم فردوهم حَتَّى ازدحموا عَلَى جسرٍ هناك، فغرق مائتا نفس.
ثُمَّ سار السّلطان إلى تِبْنين فرتَّب أمورها، وسار إلى عكّا فأشرف عليها، وقرَّر بها أميرين: سيف الدّين علي المشطوب الكُرْديّ، وبهاء الدّين قراقوش الخادم الأبيض، وعاد فلم يلبث أنْ نازلت الفِرَنج عكّا، وجاءت منَ البَرّ والبحر، فسار السّلطان حَتَّى نزل قِبالتهم وحاربهم مراتٍ عديدة، وطال القتال عليهم، واشتد البلاء، وَقُتِلَ خلقٌ منَ الفِرَنج والمسلمين إلى أن دخلت السنة الآتية والأمر كذلك.
وفيها وُلي نيابة دمشق الأمير بدر الدّين مودود أخو الملك العادل لأمه.
وقَالَ ابن الأثير: اجتمع بصور عالم لا يُعد ولا يُحصى، ومنَ الأموال ما لا يَفنى. ثُمَّ إن الرُّهبان والقُسوس وجماعة منَ المشهورين لبسوا السّواد، وأظهروا الحزن عَلَى بيت المَقْدِس، فأخذهم بَتْرَكُ القُدس، ودخل بهم بلاد الفِرَنج يطوف بهم ويستنفرون الفِرَنج، وصوروا صورة المسيح وصورة النَّبِيّ صلي الله عليه وسلم وَهُوَ يضرب المسيح وَقَدْ جرحه، فعظُم ذَلِكَ عَلَى الفِرَنج، وحشدوا وجمعوا حَتَّى تهيأ لهم منَ الرجال والأموال ما لا يتطرق إِلَيْهِ الإحصاء، فحدثني رجلٌ من حصن الأكراد من أجناد أصحابه الذين سلموه إلى الفِرَنج قديماُ، وكان قَدْ تاب وندم عَلَى ما كَانَ منه فِي الغارة مَعَ الفِرَنج عَلَى الْإِسْلَام، قال: دخلت مع جماعة منَ الفِرَنج من أَهْل حصن الأكراد إلى البلاد البحرية فِي أربعة شواني يستنجدون. قال: فانتهى بنا الطواف إلى رومية الكبرى، فخرجنا منها وَقَدْ ملأنا الشواني نُقْرة. -[689]-
قَالَ ابن الأثير: فخرجوا عَلَى الصَّعْب والذَّلُول برّا وبحرًا من كُلّ فجٍّ عميق، ولولا أن اللَّه لطف بالمسلمين وأهلك ملك الألمان لما خرج إلى الشام، وإلا كَانَ يُقَالُ: إن الشام ومصر كانتا للمسلمين إلى أن قَالَ: ونازلوا عكّا فِي منتصف رجب، ولم يبق للمسلمين إليها طريق، فنزل صلاح الدّين عَلَى تل كيسان، وسير الكُتب إلى ملوك الأطراف بطلب العساكر، فأتاه عسكر المَوْصِل وديار بَكْر والجزيرة، وأتاه تقي الدّين ابن أخيه، إلى أن قَالَ ابن الأثير: فكان بَيْنَ الفريقين حروب كثيرة، فقاتلهم صلاح الدّين فِي أول شعبان، فلم ينل منهم غرضًا، وبات النّاس عَلَى تعبئة، وباكروا القتال منَ الغد، وصبر الفريقان صبرًا حار لَهُ مَن رآه إلى الظهر، فحمل عليهم تقي الدّين حملة مُنْكَرَة منَ الميمنة عَلَى من يليه فأزاحهم عَنْ مواقفهم، والتجؤوا إلى من يليهم، وملك تقي الدّين مكانهم والتصق بعكا. ودخل المسلمون البلد، وخرجوا منه، وزال الحصار. وأدخل إليهم صلاح الدّين ما أراد منَ الرجال والذخائر، ولو أن المسلمين لزِموا القتال إلى الليل لبلغوا ما أرادوا. وأدخل إليهم صلاح الدّين الأمير حسام الدّين السّمين.
ذكر الوقعة الكبرى
قَالَ: وبقي المسلمون إلى العشرين من شعبان، كل يوم يعاودون القتال ويراوحونه، والفِرَنج لا يظهرون من معسكرهم ولا يُفارقونه حَتَّى تجمعوًا للمشورة، فقالوا: عساكر مصر لَمْ تحضر، والحال مَعَ صلاح الدّين هكذا. والرأي أننا نلقَى المسلمين غدًا لعلَّنا نظفر بهم. وكان كثير من عساكر السّلطان غائبًا، بعضها في مقابل أنطاكية تخوفًا من صاحب أنطاكية، وبعضها فِي حمص مقابل طرابُلس، وعسكر فِي مقابل صور، وعسكر مصر بالإسكندرية ودِمياط، وأصبح صلاح الدّين وعسكره عَلَى غير أُهبة، فخرجت الفِرَنج منَ الغد كَأنَّهُمُ الجراد المنتشر، قَدْ ملأوا الطُّول والعَرْض، وطلبوا ميمنة الْإِسْلَام وعليها تقي -[690]- الدّين عُمَر، فَرَدَفه السّلطان برجالٍ، فعطفت الفِرَنج نحو القلب، وحملوا حملة رجلٍ واحد، فانهزم المسلمون، وثبت بعضُهم، فاستشهد جماعة، منهم الأمير مجلي، والظهير أخو الفقيه عِيسَى الهكّاريّ، وكان متولي بيت المَقْدِس، والحاجب خليل الهكّاريّ. ثُمَّ ساقوا إلى التّلّ الَّذِي عليه خيمة صلاح الدّين فقتلوا ونهبوا، وقتلوا شيخنا جمال الدّين ابن رَوَاحة، وانحدروا إلى الجانب الآخر منَ التّلّ، فوضعوا السيف فيمن لقوه، ثُمَّ رجعوا خوفًا أن ينقطعوا عن أصحابهم، فحملت ميسرة الإسلام عليهم فقاتلوهم، وتراجع كثيرٌ منَ القلب، فحمل بهم السّلطان فِي أقفية الفِرَنج وهم مشغولون بالميسرة، فأخذتهم سيوف اللَّه من كُلّ جانب، فلم يفلت منهم أحدٌ، بل قُتل أكثرهم، وأُسر الباقون، فيهم مقدَّم الداوية الَّذِي كَانَ السّلطان قد أسره وأطلقه، فقتله الآن. وكان عِدَّة القتلى عشرة آلاف، فأمر بهم فأُلقوا فِي النهر الَّذِي يشرب منه الفِرَنج. وكان أكثرهم من فرسان الفرنج.
قال القاضي ابن شدّاد: لقَدْ رأيتهم يُلقون فِي النَّهر فحزرتُهم بدون سبعة آلاف.
قَالَ غيره: وقُتل منَ المسلمين مائة وخمسون نفرًا، وكان من جملة الأسرى ثلاث نِسْوة إفرنجيات كنَّ يقاتلْن عَلَى الخيل، وأمّا المنهزمون فبلغ بعضهم إلى دمشق، ومنهم من رجع إلى طبريَّة.
قَالَ العماد الكاتب: العَجَب أن الذين ثبتوا نحو ألف ردوا مائة ألف، وكان الواحد يَقُولُ: قتلت منَ الفِرَنج ثلاثين، قتلت أربعين، وجافَت الأرض من نَتَن القتلى، وانحرفت الأمزجة وتمرض صلاح الدّين، وحصل لَهُ قولَنْج كَانَ يعتاده. فأشار الأمراء عليه بالانتقال منَ المنزلة، وترك مضايقة الفِرَنج، وأن يبعد عَنْهُمْ، فَإِن رحلوا فقد كُفينا شَرَّهم، وإن أقاموا عُدنا، وأيضًا فلو وقع إرجاف، يعني بوفاتك، لهلك النّاس، فرحل إلى الخرُّوبة فِي رابع عشر رمضان.
وأخذت الفرنج في محاصرة عكا، وعملوا عليهم الخندق، وعملوا سورًا من تراب الخندق وجاءوا بما لَمْ يكن فِي الحساب، واشتغل صلاح الدّين بمرضه، وتمكن الفِرَنج وعملوا ما أرادوا. وكان مَن بِعَكَّا يخرجون إليهم كُلّ -[691]- يومٍ ويقاتلونهم، وَفِي نصف شوال وصل العادل بالمصريين، فقويت النفوس، وأحضر معه منَ آلات الحصار شيئًا كثيرًا. وجمع صلاح الدّين منَ الرجالة خلائق، وعزم عَلَى الزَّحف، وجاءه الأصطول الْمَصْرِيّ عليه الأمير لؤلؤ، وكان شَهْمًا، شجاعًا، خبيرًا بالبحر ميمون النقيبة، فوقع عَلَى بطسةٍ للفرنج فأخذها، وحوَّل ما فيها إلى عكا فسكنت نفوس أهلها وقوي جَنانهم.
قَالَ: ودخل صفر من سنة ست وثمانين، فسمع الفِرَنج أن صلاح الدّين قَدْ سار يتصيد، ورأوا اليزَك الَّذِي عليهم قليلًا، فخرجوا مِن خندقهم عَلَى اليَزَك العصر، فحمي القتال إلى الليل وقُتل خلقٌ منَ الفريقين، وعاد الفِرَنج إلى سورهم، وجاءت السّلطان الأمدادُ، وذهب الشِّتَاء فتقدم منَ الخَرُّوبة نحو عكّا، فنزل بتل كيسان وقاتل الفرنج كل يوم وهم لا يسأمون، إلى أن قَالَ: وافترقوا فرقتين، فرقة تقابله، وفرقة تقاتل عكّا. ودام القتال ثمانية أيام متتابعة، ثُمَّ ساق قصة الأبراج الخشب التي يأتي خبرها، وقَالَ: فكان يومًا مشهودًا لَمْ يَرَ النّاس مثله، والمسلمون ينظرون ويفرحون، وَقَدْ أسفرت وجوههم بنصر اللَّه.
إلى أن قَالَ:
ذكر وصول ملك الألمان إلى الشام
والألمان نوع من أكثر الفِرَنج عددًا وأشدهم بأسًا. وكان قَدْ أزعجه أَخَذَ بيت المَقْدِس، فجمع العساكر وسار، فَلَمَّا وصل إلى القُسْطَنْطِينيَّة عجز ملكها عَنْ منعهم مِن العبور فِي بلاده، فساروا وعبروا خليج قُسْطَنْطِينيَّة، ومروا بمملكة قلج أرسلان، فثار بهم التركمان، فَمَا زالوا يسايرونهم ويقتلون منَ انفرد ويسرقونهم. وكان الثلج كثيرًا فأهلكهم البرد والجوع، وماتت خيلهم لعدم العلف وشدة البرد، وتمَّ عليهم شيء ما سُمِع بِمِثْلِهِ. فَلَمَّا قاربوا قُونية خرج قُطب الدّين ملكشاه بْن قلج أرسلان ليمنعهم، فلم يقو بهم، وكان قَدْ حجر عَلَى والده، وتفرَّق أولاده، وغلب كُلّ واحد عَلَى ناحية من بلاده. فنازلوا قونية وأرسلوا إلى قلج أرسلان هدية وقالوا: ما قصدُنا بلادك، وإنما قصدنا -[692]- بيت المقدس وطلبوا منه أن يأذن لرعيته فِي إخراج سوق، وشبعوا وتزوَّدوا. وطلبوا من صاحب الروم جماعة تخفرهم من لصوص التُّرْكمان، فنفذ معهم خمسةً وعشرين أميرًا، فَمَا قدِروا عَلَى منع الحرامية لكَثْرتهم، فغضب ملك الألمان، وقبض عَلَى أولئك الأمراء، وقيَّدهم ونهب متاعهم، ثُمَّ منهم من خلص، ومنهم من مات في الأسر.
وقَالَ ابن واصل: جمع قُطْب الدّين صاحب قونية العساكر والتقاهم فكسروه كسرةً عظيمة، وهجموا قونية بالسيف، وقتلوا منها عالمًا عظيمًا. ووصل إلى السّلطان مناصحة من ملك الأرمن صاحب قلعة الروم: " كتاب المخلص الداعي الكاغيكوس " أن ملك الألمان خرج من دياره، ودخل بلاد الهنكْر، ثُمَّ أرض مقدم الروم، فقهره وأخذ رهائنه وولده وأخاه فِي جماعة، وأخذ منه أموالًا عظيمة إلى الغاية، وسار ملك الألمان حَتَّى أتى بلاد الأرمن، فأمدَّهم صاحبها بالأقوات وخضع لهم، ثُمَّ ساروا نحو أنطاكية فنزل ملكهم يغتسل فِي نهر هناك، فغرق فِي مكانٍ منه لا يبلغ الماء وسط الرجل، وكفى اللَّه شرّه، وقيل: بل غرق فِي مخاضةٍ، أَخَذَ فرسه التّيَار. وقيل: بل سبح فمرض أيامًا ومات، وصار فِي المُلْك بعده ولده، وسار إلى أنطاكية فاختلف أصحابه عليه، وأحبّ بعضهم العَوْد إلى بلاده، ومال بعضهم إلى تمليك أخ لَهُ فرجعوا، فسار من ثبت معه فوصلوا إلى أنطاكية، فكانوا نيفًا وأربعين ألفًا، فوقع فيهم الوباء وتبرَّم بهم صاحب أنطاكية، وحسَّن لهم المسير إلى الفِرَنج الذين عَلَى عكا، فساروا عَلَى جَبَلَة واللّاذقيَّة، وتخطف المسلمون منهم فبلغوا طرابُلُس، وأقاموا بها أيامًا، فكثُر فيهم الموت، ولم يبق منهم إلا نحو ألف رَجُل، وركبوا فِي البحر إلى الفِرَنج الذين عَلَى عكّا، فَلَمَّا وصلوا ورأوا ما نالهم وما هُمْ فِيهِ منَ الاختلاف عادوا إلى بلادهم، فغرق بهم المراكب، ولم ينج منهم أحدٌ. ورد اللَّه كَيْدهم فِي نحرهم.
قَالَ ابن واصل: ورد كتاب الملك الظّاهر من حلب إلى والده يخبره أَنَّهُ قَدْ صحَّ أن ملك الألمان قَدْ خرج من جهة القُسْطَنْطِينيَّة فِي عدةٍ عظيمةٍ، -[693]- قِيلَ: إنهم مائتا ألف وستون ألفًا تريد الْإِسْلَام والبلاد.
قُلْتُ: كَانَ هلاك هَذِهِ الأمة منَ الآيات العظيمة المشهورة. وكان الحامل لخروجهم من أقصى البحار أخْذُ بيت المَقْدِس من أيديهم.
قَالَ ابن واصل: وصل إلى السّلطان كتاب كاغيكوس الأرمني صاحب قلعة الروم، وَهُوَ للأرمن كالخليفة عندنا، نسخة الكتاب: " كتاب الداعي المخلص الكاغيكوس: فَمَا أطالع بِهِ مولانا ومالكنا السّلطان الملك الناصر، جامع كلمة الْإِيمَان، رافع علم العدل والإحسان، صلاح الدنيا والدين، من أمر ملك الألمان، وما جرى لَهُ، فَإنَّهُ خرج من دياره، ودخل بلاد الهنْكر غصْبًا ثُمَّ دخل أرض مقدَّم الروم، وفتح البلاد ونهبها، وأخذ رهائن ملكها، ولَدَه وأخاه، وأربعين نَفَرًا من جُلَسائه، وأخذ منه خمسين قنطارًا ذهبًا، وخمسين قنطارًا فضة، وثياب أطلس مبلغًا عظيمًا، واغتصب المراكب، وعدَّى بها إلى هَذَا الجانب، يعني فِي خليج قسطنطينية، قال: إلى أن دخل إلى حدود بلاد قَلِج أرسلان، ورد الرهائن، وبقي سائرًا ثلاثة أيام، وتُرْكمان الأوج يَلْقوْنه بالأغنام والأبقار والخيل والبضائع، فتداخَلَهم الطَّمع وتجمَّعوا لَهُ من جميع البلاد، ووقع القتال بَيْنَ التُّرْكمان وبينهم، وضايقوه ثلاثة وثلاثين يومًا وَهُوَ سائر. ولما قرب من قونية جمع ابن قَلِج أرسلان العساكر، فضرب معه المصاف، فكسره ملك الألمان كسرة عظيمة، وسار حَتَّى أشرف عَلَى قونية، فخرج إِلَيْهِ جموع عظيمة، فردهم مكسورين، وهجم قونية بالسيف، وَقُتِلَ منهم عالمًا عظيمًا منَ المسلمين، وأقام بها خمسة أيام، فطلب قَلِج أرسلان منه الأمان فآمنه، وأخذ منه رهائن عشرين من أكابر دولته، وأشار عَلَى الملك أن يمروا على طرسوس ففعل، وقبل وصوله بعث إليَّ رسولًا، فأنفذ المملوك خاتمًا، وصُحْبته ما سَأَلَ، وجماعة إِلَيْهِ، فكثُرت عليه العساكر ونزل عَلَى نهرٍ فأكل خُبزًا ونام، ثُمَّ تاقت نفسه إلى الاستحمام ففعل، فتحرك عليه مرضٌ عظيم ومات بعد أيام قلائل، وأمّا لافون فسار لتلقيه، فَلَمَّا علم بهذا احتمى بحصنٍ لَهُ. وأمّا ابن ملك الألمان فكان أَبُوهُ منذ خرج نَصَب ولده هَذَا عوضه، وتأطدت قواعده، فَلَمَّا بلغه هرب رُسُل لافون نفذ يستعطفهم فأحضرهم -[694]- وقَالَ: إن أَبِي كَانَ شيخًا كبيرا، وإنما قصد هذه الديار لأجل حج بيت المقدس وأنا الذي دبرت المُلك، فَمَنْ أطاعني وإلا قصدت بلاده. واستعطف لافون، واقتضى الحال الاجتماع بِهِ ضرورة. وبالجملة قَدْ عرض عسكره، فكانوا اثنين وأربعين ألف فارس، وأمّا الرجالة فلا يُحصون، وهم أجناس متفاوتة، وهم عَلَى سياسةٍ عظيمة، حَتَّى إن من جنى منهم جناية قُتِل. ولقد جنى كبير منهم عَلَى غلامه فجاوز الحدَّ فِي ضرْبه، فاجتمعت القسوس للحكم فأمروا بذبحه، فشفع إلى الملك منهم خلقٌ، فلم يلتفت إلى ذَلِكَ وذبحه. وَقَدْ حرّموا الملاذَّ عَلَى أنفسهم، ولم يلبسوا إلا الحديد، وهم منَ الصبر عَلَى الذُّل والتَّعَب والشقاء عَلَى حالٍ عظيم ". انتهى الكتاب.
فَلَمَّا هلك ملكهم سار بهم ولده إلى أنطاكية، وعمَّهم المرض، وصار مُعظمهم حَمَلة عِصِي ورُكاب حِمْيَر. فتبرَّم بهم صاحب انطاكية، وحسَّن لهم قصْدَ حلب، فأبوا وطلبوا منه قلعته ليُودِعوا فيها الخزائن، فأخلاها لهم، ففاز بما وضعوه بها وجاءت فرقة منَ الألمانية إلى بغْراس، وظنوا أنها للنَّصارى، ففتح واليها الباب، وخرج أصحابه فتسلموا صناديق أموال، وقتلوا كثيرًا منهُم، ثُمَّ خرج جُند حلب وتلقطوهم. وكان الواحد يأسر جماعة، فهانوا فِي النفوس بعد الهيبة والرعب منهم، وبيعوا فِي الأسواق بأبخس ثمن.
قَالَ ابن شدّاد: مرض ابن ملك الألمان مرضًا عظيمًا فِي بلاد ابن لاون، وأقام معه خمسة وعشرون فارسًا وأربعون داويًا، ونفذ عسكره نحو أنطاكية، حَتَّى يقطعوا الطريق، ورتبهم ثلاث فرق لكثْرتهم. فاجتازت فرقة تحت بغراس، فأخذ عسكر بغراس مَعَ قلته مائتي رجلٍ منهم. وسار بعض عسكر البلاد لكشف أخبارهم، فوقعوا على فرقة منهم، فقتلوا وأسروا زُهاء خمس مائة.
وقَالَ ابن شدّاد: حضرت من يخبر السّلطان عَنْهُمْ ويَقُولُ: هُمْ ضعفاء قليلو الخيل والعدة، وأكثر ثقلهم عَلَى حِمْيَر وخيلٍ ضعيفة، ولم أر مَعَ كُثير منهم طارقة ولا رُمحًا، فسألتهم عَنْ ذَلِكَ فقالوا: أقمنا بمرجٍ وخمٍ أيامًا، -[695]- وقلَّت أزوادنا وأحطابنا، فأوقدنا معظم عُدَدنا، وذبحنا الخيل وأكلناها، ومات الكُند الَّذِي عَلَى الفِرقة الواحدة، وطمع ابن لاون حَتَّى عزم عَلَى أخذ مال الملك لمرضه وضعفه، وقلة من أقام معه، فشاور السّلطان الأمراء، فوقع الاتفاق عَلَى تسيير بعض العساكر إلى طريقهم. فكان أول من سار الملك المنصور محمد بن المظفر، ثم سار عز الدّين ابن المقدم صاحب بَعرين وفامية، ثُمَّ الأمجد صاحب بِعْلَبَكّ، ثُمَّ سابق الدّين عثمان ابن الداية صاحب شَيْزَر، ثُمَّ عسكر حماه، ثُمَّ سار الملك الظاهر إلى حِفْظ حلب، فخفت الميمنة، فانتقل إليها الملك العادل، ووقع فِي العسكر مرضٌ كثير، وكذلك فِي العدو، وتقدَّم السّلطان يهدم سور طبريَّة، ويافا، وأرسُوف، وقَيْساريَّة، وصيدا، وجُبيل، وانتقل أهلها إلى بيروت.
وَفِي رجب سار ملك الألمانيين من أنطاكية إلى اللّاذقيَّة ثُمَّ إلى طرابُلُس، وكان قَدْ سار إِلَيْهِ المركيس صاحب صور، فقوى قلبه، وسلك بِهِ الساحل، فكانت عدة من معه لما وصل إلى طرابُلُس خمسة آلاف بعد ذَلِكَ الجيش العظيم. ثم إنه نزل في البحر، وسار معظم أصحابه فِي الساحل، فثارت عليه ريح، فأهلكت من أصحابه ثلاثة مراكب، فوصل إلى عكّا فِي جَمْع قليل فِي رمضان، فلم يظهر لَهُ وقْع، ثُمَّ هلك عَلَى عكّا فِي ثاني عشر ذِي الحجة سنة ستٍّ وثمانين، فسبحان من أبادهم ومحقهم.
ويوم وصول ملك الألمان إلى عكّا ركبت الفِرَنج وأظهروا قوة وأرجفوا، وحملوا عَلَى يَزَك المسلمين، فركب السلطان، ووقع الحرب، ودام إلى الليل فكانت الدائرة عَلَى الكفار، ولم يزل السَّيف يعمل فيهم حَتَّى دخلوا خيامهم. ولم يُقتل يومئذٍ منَ المسلمين إلا رجلان، لكنْ جُرح جماعة كثيرة.
ولما مات طاغية الألمان حزنت عليه الفِرَنج، وأشعلوا نيرانًا هائلة بحيث لَمْ يبق خيمةٌ إلا أوقد فيها النار. ومات لهم كنْد عظيم، ووقع الوباء فيهم والمرض، ومرض كنْدهري، وصار يموت فِي اليوم المائة وأكثر فِي معسكرهم. واستأمن منهم خلْقٌ عظيم، أخرجهم الجوع، وقالوا للسّلطان: نَحْنُ نركب البحر فِي مراكب صِغار، ونكسب منَ النَّصارى، ويكون الكسب لنا ولكم. فأعطاهم السّلطان مركبًا فركبوا فيه، وظفروا بمراكب التجار النَّصارى، وأتوا بالغنائم إلى السّلطان فأعطاهم الجميع، فَلَمَّا رأوا هَذَا أسلم جماعة -[696]- منهم، واستشهد فِي هَذِهِ السنة سبعة أمراء على عكا، والتقى شواني المسلمين وشواني الفرنج في البحر، فأحرقت للفِرنج شواني برجالها، وأحاطت مراكب العدو بشينيِّ مقدمه الأمير جمال الدّين مُحَمَّد بْن ألْدِكِز، فترامى ملاحو الشيني إلى الميناء، فقاتل جمال الدّين، فعرضوا عليه الأمان فَقَالَ: ما أضع يدي إلا فِي يد مقدمكم الكبير. فجاء مقدمهم إِلَيْهِ، فعانقه جمال الدّين وماسَكَه وشَحَطه، فوقعا فِي البحر وغرقا معًا.