-سنة اثنتين وثمانين وخمس مائة

فِي أوّلها صح مِزاج السّلطان بحَرّان فرحل منها، ومعه ولداه الظّاهر، والعزيز، وأخوه العادل، وقدِم دمشق، فبذل العادل بلاد حلب لأولاد أَخِيهِ، فشكره السّلطان عَلَى ذَلِكَ، وملّكها للسّلطان الملك الظّاهر غازي ولده، وسيَّر أخاه العادل إلى مصر، ونزل عَلَى نواحي البلقاء.

وقيل: إنّ الملك الظّاهر لمّا تزوَّج بابنة العادل نزل لَهُ العادل عَنْ حلب، وقَالَ: أَنَا ألزم خدمة أَخِي وأقنع بما أعطاني. وسمح بهذا لأنّ السّلطان أخاه كَانَ فِي مرضه قَدْ أوصى إليه على أولاده وممالكه، فأعجبه ذلك.

قَالَ العماد الكاتب: أجمع المنجّمون فِي سنة اثنتين وثمانين فِي جميع البلاد بخراب العالم فِي شعبان عِنْد اجتماع الكواكب السّتَّة فِي الميزان بطوفان الرّيح فِي سائر البلدان، وخوّفوا بِذَلِك من لا توثُّق لَهُ باليقين، ولا إحكامٌ لَهُ فِي الدّين من ملوك الأعاجم والروم، وأشعروهم من تأثيرات النّجوم، فشرعوا فِي حفر مغارات في التُّخُوم، وتعميق بيوتٍ فِي الأسراب وتوثيقها، وشدّ منافسها عَلَى الرّيح، ونقلوا إليها الماء والأزواد وانتقلوا إليها، وانتظروا الميعاد وسلطاننا متنمّر من أباطيل المنجّمين، مُوقنٌ أنّ قولهم مبنيّ عَلَى الكذب -[670]- والتّخمين. فَلَمَّا كَانَتِ اللّيلة الّتي عيَّنها المنجّمون لمثل ريح عاد، ونحن جلوسٌ عِنْد السّلطان، والشُّموع توقد، وما يتحرَّك لنا نسيم، ولم نرَ ليلةً مثلَها فِي ركودها، وعمل فِي ذَلِكَ جماعةٌ منَ الشّعراء. فمما عمل أَبُو الغنائم محمد ابن المعلّم فيما ورَّخه أبو المظفَّر السبط فِي المرآة:

قُلْ لأبي الفضْل قَولَ معترفٍ ... مضى جُمادى وجاءنا رَجَبُ

وما جرت زعزعا كَمَا حكموا ... ولا بَدَا كوكبٌ لَهُ ذَنَبُ

كلاَّ، ولا أظلمت ذُكاء ولا ... أبدت أذىً في قرانها الشُّهُبُ

يقضي عليها من لَيْسَ يعلم ما ... يُقضى عليه هَذَا هُوَ العَجبُ

قَدْ بان كذِبُ المنجّمين وفي ... أي مقال قالوا وماكذبوا؟

قَالَ ابن البُزُوريّ: وَفِي يوم عاشوراء سنة اثنتين قَالَ مُحَمَّد بْن القادسيّ: فُرِش الرَّماد فِي الأسواق ببغداد، وعُلِّقت المُسُوح، وناح أَهْل الكَرخ والمختارة، وخرج النّساء حاسراتٍ يَلْطمْن ويَنُحْن من باب البدريَّة إلى باب حجرة الخليفة، والخِلَع تُفاض عليهنّ وعلى المُنْشِدين منَ الرجال، وتعدّى الأمر إلى سبِّ الصّحابة. وكان أَهْل الكرْخ يصيحون: ما بقي كتمان. وأقاموا ابنة قرايا، وكان الظّهير ابن العَطَّار قَدْ كبس دار أبيها، وأخرج منها كُتبًا فِي سبّ الصّحابة، فقطع يديه ورِجْلَيه، ورجمته العوامّ حَتَّى مات، فقامت هَذِهِ المرأة تحت منظرة الخليفة وحولها خلائق وهي تنشد أشعار العوْني وتقول: العنوا راكبةَ الجمل. وتذكر حديث الإفْك، قَالَ: وكلّ ذَلِكَ منسوبٌ إلى أستاذ الدّار، وَهُوَ مجد الدّين ابن الصّاحب، ثم قُتِل بعد.

وفيها وقع الخلاف بَيْنَ الفِرنج - لعنهم اللَّه - وتفرَّقت كلمتهم، وكان فِي ذَلِكَ سعادة الْإِسْلَام.

وفيها غدر اللّعين أرناط صاحب الكَرَك فقطع الطّريق عَلَى قافلةٍ كبيرة جاءت من مصر، فقتل وأسر، ثُمَّ شنّ الغارات عَلَى المسلمين، ونبذ العهد. فتجهّز السّلطان صلاح الدّين لحربه، وطلب العساكر منَ البلاد، ونذر إن ظَفَرَ بِهِ ليقتلنّه، فأظفره اللَّه بِهِ كَمَا يأتي. -[671]-

أَنْبَأَنَا ابن البُزُوري فِي " الذَّيْل " قَالَ: وقدِم الحاجّ بغداد، وأخبروا أنّ سيف الْإِسْلَام طُغتِكين أخا صلاح الدّين خرج عَنِ الطّاعة، وترك مراضي الديوان وأتباعه، واستولى على مكّة وأهلها، وخطب لأخيه، وأخبروا أنّ قِفل الكعبة عَسُر عليهم فتحُه، وازدحم النّاس، فمات منهم أربعةٌ وثلاثون نفسًا.

قَالَ: وَفِي هَذِهِ السّنة كَانَ المنجّمون يزعمون أنّ فِي تاسع جُمادى الآخرة تجتمع الكواكب الخمسة في برج الميزان، وَهُوَ القِران الخامس، ويدلّ ذَلِكَ عَلَى رياحٍ شديدة، وهَلاك مدنٍ كثيرة، فلم يُرَ إلا الخير. وأُخبرتُ أنّ الهواء توقَّف فِي الشّهر المذكور عَلَى أَهْل السّواد، فلم يكن لهم ما يذرّون بِهِ الغلَّة.

قال ابن البزوري: وكان الخليفة أمر بأخْذ خطوط المنجمّين بِذَلِك، فكتبوا سوى قيماز، وكان حاذقًا بالنّجوم، فإنّه كتب: لا يتم من ذَلِكَ شيء. وخرج. فَقَالَ لَهُ منجّم: ما هَذَا؟ قَالَ: إنْ كَانَ كَمَا تزعمون من هلاك العالم مَن يوافقني؟ وإن كان ما قلته حظيت عندهم.

وفيها عقد أمير المؤمنين الناصر عَلَى الجهة سلجوق خاتون بِنْت قَلِج أرسلان بْن مَسْعُود صاحب بلاد الروم بوكالةٍ من أخيها كيخسْرُو، وسار لإحضارها الحافظ يوسف بْن أَحْمَد شيخ الرّباط الأرجواني.

وفيها جَرت فتنة عظيمة بَيْنَ الرافضة والسُّنة قُتل فيها خلقٌ كثير، وغلبوا أَهْل الكرْخ.

وفيها وردت الأخبار بالفِتَن بأصبهان، والقتال والنَّهب، وإحراق المساجد والمدارس، وقتْل الأطفال، فقُتِل أربعة آلاف نفس. وسببه اختلاف المذاهب بعد وفاة زعيم أصبهان البهلوان. ثم ملك بعده أخوه فهذَّب البلاد.

وأمير الركب العراقي فِي هَذِهِ الأعوام طاشتكين المستنجديّ.

وَفِي هَذِهِ الأيام كَثُر الخُلْف بديار بَكْر والجزيرة بَيْنَ الأكراد والتُّركمان، وبين الفرنج والروم والأرمن، وبين الإسماعيلية والنبوية. وقتلت الإسماعيليَّة ابن نيسان والد الّذي أَخَذَ منه صلاح الدّين آمِد.

ووقع بَيْنَ الكراكيّ واللَّقالق والإوَزّ، وصارت تصطدم بالجوّ وتتساقط جرحى وكَسْرَى، وامْتار النّاس منها بأرض حَرّان؛ قاله عَبْد اللّطيف.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015