في أوَّلها دخل بغداد تتامِش الأمير الَّذِي خرج مع قَيماز، ونزل تحت التاج، وقَبلَ الأرض مرارًا، فعفي عنه، وأعطي إمرية.
وحضر ابن الجوزي مرتين فوعظ، وأمير المؤمنين يسمع، واجتمع خَلْق لَا يُحْصَوْن.
وجَرَت ببغداد همرجة، وقبض على حاجب الحجاب وعلى جماعة.
قال ابْن الجوزي: وجاءتني فتوى فِي عَبْدٍ وأَمَةٍ، أعتقهما مولاهما، وزوَّج أحدهما بالآخر، فبقيت معه عشرين سنةً، وجاءت منه بأربعة أولاد، ثم بانَ الآن أنها أخته لأبَوَيْه، وقد وقعا فِي البكاء والنحيب. فعجِبْتُ من وقوع هذا، وأعلمتهما أنه لَا إثم عليهما، وبوجوب العُدة، وأنْه يجوز لَهُ النَّظر إليها نَظَره إلى أخته، إلا أن يخاف على نفسه.
وفي ليلة رجب تكلَّمت تحت المنظرة الشريفة، والخليفة حاضر، ومِن الغد حضرنا دعوة الخليفة التي يعملها كلَّ رجب، وحضر الدولة والعُلماء والصُّوفية، وختمت ختْمة. وخلع على جماعةٍ كثيرة، وأنصرفَ مَن عادته الانصراف، وبات الباقون على عادتهم لسماع الأبيات، وفرق عليهم المال. -[466]-
وفِيهَا عمل الخليفة مسجدًا عظيمًا ببغداد، وجعل إمامه حنبليًا، وزَخْرفه، وتقدم إلي فصليت فِيهِ التراويح.
وتكلَّمت فِي رَمَضَان فِي دار صاحب المخزن وازدحموا، وكان الخليفة حاضرًا.
وفي شوال هبت ريحٌ عظيمة ببغداد، فزلزلت الدنيا بتراب عظيم، حتى خيف أن تكون القيامة. وجاء بَرَدٌ ودام ساعة، ووقعت مواضع على أقوام، ومات بعضهم.
وتهيأ الوزير ابن رئيس الرؤساء للحج، فقيل: إنه اشترى ستمائة جمل، منها مائة للمنقطعين. ورحل في ثالث أو رابع ذي القعدة، فلما وصل فِي الموكب إلى باب قطفتا قَالَ رَجُل: يا مولانا، أنا مظلوم. وتقرّب، فزجره الغلمان، فقال: دعوه. فتقدَّم إليه، فضربه بسكين فِي خاصرته، فصاح الوزير: قتلني. ووَقَعَ وانكشف رأسه، فغطى رأسه بكمه على الطريق، وضُرِب ذلك الباطني بسيف. فعاد وضرب الوزير، فَهَبرُوه بالسيوف.
وقيل: كانوا اثنين، وخرج منهم شابُ بيده سكين فَقُتِلَ، ولم يعمل شيئًا، وأحْرِقَ الثلاثة. وحمل الوزير إلى دار، وجُرِح الحاجب. وكان الوزير قد رَأَى أنه مُعَانِق عثمان رضى اللَّه عنه، وحكى عَنْهُ ابنه أنه اغتسل قبل خروجه، وقال: هذا غُسل الْإِسْلَام؛ فإني مقتولٌ بلا شك. ثم مات بعد الظُهْر، ومات حاجبه بالليل.
وعُمِل عزاء الوزير، فلم يحضره إلا عددٌ يسير، فتُعُجب من هذه الحال؛ فإنه قد يكون عزاء تاجر أحسن من ذلك. وكان انقطاع الدولة إرضاء لصاحب المخزن. ولما كان فِي اليوم الثاني لم يقعد أولاده، فلما علم السلطان بالحال أمَرَ أرباب الدولة بالحضور فحضروا، وتكلمت على كرسي.
ثم وُلي ابْن طلحة حجابة الباب، وبعث صاحب المخزن بعلامة بعد ثلاثٍ إلى الأمير تتامش فحضر، فوكل به فِي حُجرةٍ من داره، ونفذ إلى بيته، فأخذت الخيل والكوسات، وكل ما فِي الدار. واختلفت الأراجيف في نيته، وقيل: إنه اتُهم بالوزير، وخيف أن تكون نيته رديئة للخليفة، فقيل إنه كاتب -[467]- أمراء خُراسان، وما صح ذلك. وناب صاحب المخزن في الوزارة.
وجاء أهل المدائن فشكوا من يهود المدائن، وأنهم قَالُوا لهم: قد آذيتمونا بكثرة الأذان. فقال المؤذّن: لا نبالي تأذّيتم أم لَا. فتناوشوا وجَرَت بينهم خصومة استظهر فِيهَا اليهود، فجاء المسلمون مستصرخين إلى صاحب المخزن، فأمر بحبْس بعضهم، ثم أطلقهم.
فاستغاثوا يوم الجمعة بجامع الخليفة، فخفف الخطيب. فلما فرغت الصلاة استغاثوا، فخرج إليهم الْجُند فضربوهم ومنعوهم، فانهزموا. وغضب العوام نُصْرة للإسلام، فضجوا وشتموا، وقلعوا طوابيق الجامع، وضربوا بها الْجُنْد وبالآجُر، وخرجوا فنهبوا المخلّطين؛ لأن أكثرهم يهود.
فوقف حاحب الباب بيده السيف مجذوبًا، وحمل على الناس ثانية فرجموه، وانقلب البلد، ونهبوا الكنيسة، وقلعوا شبابيكها، وقطعوا التوراة، واختفى اليهود. فتقدَّم الخليفة بإخراب كنيسة المدائن، وأن تجعل مسجدًا.
وبعد أيام أخرج لصوص قطعوا الطريق، فَصُلِبوا بالرحبة، وكان منهم شاب هاشمي.
وفِيهَا وقعة الرملة، فسار السلطان صلاح الدين من القاهرة إلى عسقلان فسَبى وغنم. وسار إلى الرملة، فخرج عَلَيْهِ الفِرَنج مطلبين وعليهم البرنْس أرناط صاحب الكَرَك، وحملوا على المسلمين، فانهزموا، وثبت السلطان وابنُ أخيه المظفر تقي الدين عُمَر.
ودخل الليل، واحْتَوَت الملاعين على أثقال المسلمين، فلم يبق لهم قدرةٌ على ماءٍ وَلَا زاد، وتعسفوا تلك الرمال راجعين إلى مصر، وتمزقوا وهلكت خيلهم.
ومن خبر هذه الوقعة أن الفقيه عيسى أُسِر، فافتداه السلطان بستين ألف دينار، وكان موصوفًا بالشجاعة والفضيلة، أسِر هُوَ وأخوه ظهير الدين، وكانا قد ضلا عَن الطريق بعد الوقعة. ووصل صلاح الدين إلى القاهرة فِي نصف جُمَادى الآخرة. -[468]-
قال ابْن الأثير: رَأَيْت كتابًا بخط يده كتبه إلى شمس الدولة تُورانشاه، وهو بدمشق، يذكر الوقعة، وفي أوله:
ذكرتك والخطيّ يخطر بينَنَا ... وقد نَهَلَتْ منّا المَثقَّفةُ السمْرُ
ويقول فِيهِ: لقد أشرفنا على الهلاك غير مرة، وما نجانا اللَّه إلَّا لأمرٍ يريده.
وما ثبتت إلَّا وفي نفسها أمرُ.
وقال غيره: انهزم السلطان والناس، ولم يكن لهم بلد يلجؤون إليه إلا مصر، فسلكوا البرية، ورأوا مشاقًا، وقل عليهم القوت والماء، وهلكت خيلهم، وفُقد منهم خلْقٌ.
ودخل السلطانُ القاهرةَ بعد ثلاثة عشر يومًا، وتواصل العسكر، وأسر الفرنج منهم. واستشهد جماعة منهم: أَحْمَد ولد تقي الدين عُمَر المذكور، وكان شابًا حَسَنًا لَهُ عشرون سنة. وكان أشد الناس قتالًا يومئذ الفقيه عيسى الهكاري. وحملت الفِرَنج على صلاح الدين، وتكاثروا عليه، فانهزم يسير قليلًا قليلًا. وكانت نوبةً صعبة.
وفِيهَا نزلت الفرنج على حماه، وهي لشهاب الدين محمود بْن تِكِش خال السلطان، وكان مريضًا، وكان الأمير سيف الدين المشطوب قريبًا من حماه، فدخلها وجمع الرجال. فزحفت الفِرَنج على البلد، وقاتلهم المسلمون قتالًا شديدًا مدةَ أربعة أشهر، ثم ترحلوا عَنْهَا. وأما السلطان فإنه أقام بالرملة أيامًا بمن سَلِم معه، ثم خرج من مِصْر. وعيد بالبركة، ثم كمل عدة جيشة، فَبَلَغهُ أمرُ حماه، فأسرع إليها، فلما دخل دمشق تحقق رحيل الفرنج عن حماة.
وعصى الأمير شمس الدين محمد بن المقدم ببَعْلَبَك، فكاتَبَه السلطان وترفق به، فلم يجب، ودام إلى سنة أربع.
وجاء كِتَاب ابْن المشطوب أن الَّذِي قُتِلَ من الفِرنج على حماه أكثر من ألف نفس.
ووردت مطالعة القاضي الفاضل إلى صلاح الدين تتضمن التوجع لقتل الوزير عضُد الدين ابْن رئيس الرؤساء، وفيها: " وما ربّك بظلاّم للعبيد " فقد كان -عفا اللَّه عَنْهُ- قتل وَلَدي الوزير ابْن هُبيرة، وأزهق أنفُسَهما -[469]- وجماعة لَا تُحصَى.
وهذا البيت، بيت ابْن المسلمة، عريق فِي القتْل. وجدُهُ هُوَ المقتول بيد البساسِيري. ثم قَالَ: وقد ختمت لَهُ السعادة بما حتمت له به الشهادة، لاسيما وهو خارج من بيته إلى بيت اللَّه، ووقع أجره على اللَّه:
إن المِساءَةَ قَدْ تَسُرُّ وَرُبَّمَا ... كَانَ السرورُ بِمَا كرهتَ جديرا
إِنَّ الوزيرَ وزيرَ آلِ مُحَمَّد ... أوْدَى فَمَنْ يَشْنَاكَ كان وزيرا
وهما فِي أَبِي سَلمة الخلال وزير بني الْعَبَّاس قبل أن يستخلفوا.