-سنة أربع وسبعين وخمسمائة

قال ابْن الجوزي: تكلمت فِي أول السنَة وفي عاشوراء تحت المنظرة، وحضر الخليفة، وقلت: لو أني مثُلت بين يَدَيِ السُدَّة الشريفة لقلت: يا أمير المؤمنين، كُنْ للهِ سبحانه مع حاجتك إليه كما كان لك مع غناه عنك. إنه لم يجعل أحدًا فوقك، فلا تَرضَ أن يكون أحدٌ أشكر لَهُ منك. فتصدق أمير المؤمنين يومئذ بصدقات، وأطلق محبوسين.

وأنكسفَ القمر فِي ربيع الأول، وكُسِفَتَ الشمس في التاسع والعشرين منه أيضا. ووُلِدت امرأةٌ من جيراننا ابنًا وبنتين فِي بطن، فعاشوا بعض يوم.

وفِيهَا جدد المستضيء قبَر أَحْمَد بْن حنبل رَحِمَهُ اللَّهُ، وعمِل لَهُ لوحٌ فِيهِ: " هذا ما أمر بعمله سيدنا ومولانا الْإِمَام المستضيء بأمر اللَّه أمير المؤمنين ". هذا فِي رأس اللوح. وفي وسطه: " هذا قبر تاج السنة، ووحيد الأمة، العالي الهمة، العالم، العابد، الفقيه، الزاهد، الْإِمَام أَبِي عَبْد اللَّه أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن حنبل الشيباني رَحِمَهُ الله، توفّي في تاريخ كذا وكذا ". وكتب حول ذلك آية الكرسي.

وتكلمت فِي جامع المنصور، فاجتمع خلائق، وحُزِر الجمع بمائة ألف -[470]- وتاب خلق، وقُطعت شعورهم. ثم نزلتُ فمضيتُ إلى قبر أحمد بن حنبل، فتبعني من حزر بخمسة آلاف.

وفيه أطلق الأمير تتامش إلى داره.

وتقدَّم المستضيء بعمل دكَّة بجامع القَصْر للشيخ أبي الفتح بْن المُنَى الحنبلي، وجلس فِيهَا، فتأثر أهل المذاهب من عمل مواضع للحنابلة.

وكان الوزير عضُد الدّين ابْن رئيس الرؤساء يقول: ما دخلت قط على الخليفة إلَّا أجرى ذِكْر فلان، يعنيني. وصارَ لي اليوم خمسُ مدارس، ومائة وخمسون مصنَّفًا فِي كل فنّ. وقد تاب على يدي أكثر من مائة ألف، وقطعت أكثر من عشرة آلاف طائلة، ولم يُرَ واعظٌ مثل جمْعي؛ فقد حضر مجلسي الخليفة والوزير وصاحب المخزن وكبار العلماء، والحمد لله.

وفي رجب عمل المستضيء الدعوة، ووعظت وبالغُت في وعظ أمير المؤمنين، فمما حكيته أن الرَّشيد قَالَ لشَيبان: عِظْني. قَالَ: لأن تصحب مَن يخوفك حتى يدركك الأمنُ خيرٌ لك من أن تَصْحَب من يؤمنك حتى يُدركك الخوف. قال: فسَّر لي هذا. قال: من يقول لك: أنت مسؤول عَن الرعية؛ فأتق اللَّه - أنصَح لك ممن يقول: أنتم أهلُ بيتٍ مغفورٌ لكم، وأنتم قرابة نبيكم. فبكى الرشيد حتى رحمه مَن حوله.

وقلت له في كلامي: يا أمير المؤمنين، إن تكلمت خفت منك، وأن سكت خفتُ عليك، وأنا أقَدم خوفي عليك على خوفي منك.

وفي رمضان جاء مُشَعبِذ، فذكر أنه يُضرب بالسّيف والسّكين ولا يؤثر فيه، لكن بسيفه وسكّينه خاصة.

وفيه أخِذَ ابْن قرايا الَّذِي ينشد على الدكاكين من شعْر الرافضة، فوجدوا فِي بيته كتبًا فِي سب الصَّحابة، فقُطِع لسانه ويده، وذُهب به إلى المارستان، فَرَجَمَتْه العوام بالآجُر، فهرب وسبح وهم يضربونه حتى مات.

ثم أخرجوه وأحرقوه، وعملت فِيهِ العامة كان وكان. ثم تَتبع جماعة من الروافض، وأحرِقت كُتُبٌ عندهم، وقد خمدت جمْرتهم بمرة، وصاروا أذَل من اليهود. -[471]-

ولم يخرج الرّكْب العراقي لعدم الماء والعشب، وكانت سنة مُقْحِطة. وحجَّ مَن حج على خَطَر. ورجع طائفة فنزلت عليهم عرب، فاخذوا أكثر الأموال، وقتل جماعة.

وفي ذي القعدة هبت ببغداد ريح شديدة نصف الليل، وظهرت أعمدة مثل النار فِي أطراف السماء كأنها تتصاعد من الأرض، واستغاث الناس استغاثة شديدة. وبقي الأمر على ذلك إلى السّحر.

قال ابن الجوزي: وجلست يوم الجمعة بباب بدر، وأمير المؤمنين يسمع.

وفيها اجتمعت الفِرَنج عند حصن الأكراد، وسار السلطان الملك الناصر صلاح الدين فنزل على حمص فِي مقابلة العدوّ. فلما أمن من غاراتهم سار إلى بَعْلَبِك، فنزل على رأس العين، وأقام هناك أشهرًا يراود شمسَ الدين ابْن المقدم على طاعته، وهو يَأبى.

ولم يزل الأمرُ كذلك إلى أن دخل رَمَضَان، فأجاب شمس الدين إلى تسليم بَعَلَبك على عِوَضٍ طَلَبَه. فتسلمها السلطان، وأنعم بها على أخيه المعظم شمس الدولة تُورانشاه بْن أيوب. وسار إلى دمشق فِي شوال. ثم أقطع أخاه شمسَ الدولة تورانشاه بمصر، واستردّ منه بعلبكّ.

قال ابن الأثير: وفي ذي القعدة أغارت الفِرَنْج على بلاد الْإِسْلَام وعلى أعمال دمشق، فسارَ لحربهم فَرُخشاه ابْن أخي السلطان فِي ألف فارس، فالتقاهم وألقى نفسه عليهم، وقتل مِن مقدميهم جماعة، منهم هنفري، وما أدراك ما هنفري! به كان يضرب المثل في الشجاعة.

وفيها أغار البرنس صاحب أنطاكية على شيزر.

وأغار صاحب طرابلس على التركمان.

وفِيهَا أنعم السلطان على ابْن أخيه الملك المظفَّر تقيُّ الدِّين عُمَر بْن شاهنشاه بْن أيّوب بحماه، والمَعَرَة، وفامية، ومَنْبج، وقلعة نجم. فتسلمها وبعث نوابه إليها، وذلك عند وفاة صاحب حماه شهاب الدين محمود خال السلطان. ثم تَوجَّه إليها الملك المظفر تقي الدين، ورتب فِي خدمته أميران كبيران: شمس الدين ابن المقدم، وسيف الدين علي ابن المشطوب، فكانوا فِي مقابلة صاحب -[472]- أنطاكية. ورتب بحمص ابْن شيركوه فِي مقابلة القومص.

وجاء من إنشاء الفاضل: وأما ما أمر به المولى من إنشاء سور القاهرة فقد ظهر العمل، وطلع البناء، وسلكت به الطريق المؤدية إلى الساحل بالمقسم. وَاللَّه يُعَمّر المولى إلى أن يراه نطاقًا على البلدين، وسورًا بل سوارًا يكون الْإِسْلَام به مُحَلى اليدين، والأمير بهاء الدين قراقوش ملازم للاستحثاث بنفسه ورجاله.

قلت: وهذه السنة هِيَ آخر " المنتظم ".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015