-سنة تسع وستين وخمسمائة

فِي المحرَّم وقع حريق بالظَّفَرِيَّة، فاحترقت مواضع كثيرة.

قَالَ ابن الجوزيّ: وجلست يوم عاشوراء فِي جامع المنصور، فحُزِر الجميع بمائة ألف. كذا قال.

قَالَ: وسألني فِي ربيع الأوّل أهل الحربيَّة أن أعمل عندهم مجلسًا، فوعدتهم ليلةً، فانقلبت بغداد وعبر أهلها، وتلقيت بشموع حزرت بألف شمعة، وما رَأَيْت البرّيَّة إلّا مملوءة بالضّوء، وكان أمرًا مُفْرِطًا، فلو قَالَ قائل: إنّ الخلق كانوا ثلاثمائة ألف لما أبعد.

وفي رجب وصل ابن الشّهْرُزُوريُّ بتُحَفٍ وتقادُم للخليفة من نور الدّين، وفيها حمار مخَطَّط كثوب عتابيّ، وخرج الخلْق للفُرْجة عَلَيْهِ وكان فيهم رَجُل عَتّابيّ كثير الدّعَاوَى، وهو بليد ناقص الفضيلة، فقال رجل: إن كان قد بُعِث إلينا حمارٌ عتّابيّ، فنحن عندنا عتّابيّ حمار.

وفيها وُلّي أَبُو الخير القَزْوينيّ تدريسَ النّظاميَّة ببغداد.

وخرج ابن أخي شملة التركماني، ويعرف بابن سنكة، وأخذ قلعة -[233]- بنواحي باذرايا ليتّخذها عَوْنًا لَهُ عَلَى الإغارة، فسارت لقتاله العساكر، فالتقوا، فطحن المَيْمنة، ثمّ حميَ القتال وظفروا بِهِ، وجيء برأسه إلى بغداد.

وفيها وقع بَرَدٌ بالسّواد هدم الدُّور، وقتل جماعة وكثيرًا من المواشي؛ وقال ابن الجوزي: فحدّثني الثّقة أنّهم وَزَنُوا بَرَدَةً فكانت سبعة أرطال. قال: وكان عامته كالنارنج.

وفي رمضان زادت دجلة زيادةً عظيمة عَلَى كلّ زيادةٍ تقدَّمْت منذ بُنِيت بغداد بذراعٍ وكسر، وخرج الناس إلى الصحراء، وأَيِسُوا من البلد، وضجّوا إلى اللَّه بالبكاء، وانهدمت دُورٌ كثيرة بمرَّة، وكان آيةً من الآيات، وهلكتْ قُرى ومزارع لا تُحْصَى، ونُصِب يوم الجمعة مِنْبرٌ خارج السّور، وصلّى الخطيب بالناس هناك.

وفي الجمعة الأخرى جمعوا بمسجد التوثة، ودام الغَرَق أيّامًا، وكُثر الابتهال إلى اللَّه، وبقي الخلق والأمراء كلما سدوا بثقا وتعبوا عَلَيْهِ غَلَبَهُم الماءُ وخرَّبه، أو انفتح آخر غيره.

وجاءت أمطارٌ هائلة بالمَوْصِل، ودامت أربعة أشهر حتّى تهدَّم بها نحو ألفَيْ دار، وهلك خلْقٌ تحت الرَّدْم، وزادت الفُرات زيادةً كبيرة، وفاضت حتى أهلكت قرى ومزارع. ومن العجائب أنّ هذا الماء عَلَى هذه الصّفة، ودُجَيْل قد هلكت مزارعه بالعطش.

وتُوُفّي السّلطان نور الدّين فتجدد بحلب بعد موته اختلاف بين السُّنَّة والرّافضة، فقتل من الطائفتين خلق، ونهب ظاهر البلد.

وكان ممّا قدِم بِهِ ابن الشّهرزُوريّ من البشارة فتْحُ اليمن، وكسْر الفرنج مرَّةً ثانية، ومقدمهم الدُّوقْش، وكان أسيرًا عند نور الدّين، أسره نَوْبة حارِم، ففداه بخمسةٍ وخمسين ألف دينار وخمسمائة ثوب أطلس، وفي كتابه يَقُولُ: " ولم ينج من عشرة آلاف غير عشرة حُمُرٍ مستنفرة، فرت من قسورة ".

وذكر ابن الأثير أنّ صلاح الدّين لمّا استولى عَلَى مصر وأراد أن -[234]- يستبدّ بالأمر خاف من نور الدّين، وعرف أَنَّهُ ربّما يقصده ويأخذ منه مصر، فشرع هُوَ وأهل بيته فِي تحصيل مملكة تكون لهم ملجأ إن قصدهم، فجهّز أخاه تورانشاه إلى النُّوبَة فافتتح منها. فلمّا عاد تجهّز إلى اليمن بقصد عَبْد النَّبِيّ صاحب زبيد وطرده عَنِ اليمن، وحسّن لهم ذَلِكَ عُمارة اليمنيّ، فَسَار فِي أكمل الهيبة والأهْبة فلم يثبُت لَهُ أهلُ زَبِيد، وانهزموا، فعمد العسكر إلى سُور زَبِيد، ونصبوا السّلالم وطلعوا، فأسروا عَبْد النَّبِيّ وزوجته الحُرَّة، وكانت صالحةً كثيرة الصَّدَقة، فعذّبوا عَبْد النَّبِيّ، واستخرجوا منه أموالًا كثيرة، ثمّ سار تُورَانشاه إلى عدن، وهي لياسر، فهزموه وأسروه. ثمّ سار فافتتح حصون اليمن، وهي قلعة تَعِز وقلعة الجند، واستناب بعدن عز الدين عثمان ابن الزَّنْجَبِيليّ، وبزَبِيد سيف الدولة مبارك بْن مُنْقذ، زاد أبو المظفّر السِّبْط فقال: يقال إنّه افتتح ثمانين حصنًا ومدينة، وقتل عَبْد النَّبِيّ بْن مهدي.

وذكر ابن أبي طيئ قال: في هذه السنة وصل الموفق ابن القَيْسَرانيّ إلى مصر رسولًا من نور الدّين، فاجتمع بصلاح الدّين وأنهى إِلَيْهِ رسالةً، وطالبه بحساب جميع ما حصّله من ارتفاع البلاد فشق ذَلِكَ عَلَيْهِ، وأراد شقّ العصا ثمّ ثاب، وأمر النُّوّاب بالحساب، ثمّ عرضه عَلَى ابن القَيْسرانيّ، وأراه جرائد الأجناد بالإقطاع. ثمّ أرسل معه هديَّةً عَلَى يد الفقيه عيسى، وهي ختْمة بخطّ ابن البّواب، وختمه بخطّ مُهَلْهَلٍ، وختمه بخطّ الحاكم البغداديّ، ورَبْعة مكتوبة بالذّهب بخطّ يانَس، ورَبْعة عشرة أجزاء بخطّ راشد، وثلاثة أحجار بَلَخْش، وستّ قَصَبات زُمُرّد، وقطعة ياقوت وزن سبعة مثاقيل، وحجر أزرق ستَّة مثاقيل، ومائة عِقْد جوهر وزنها ثمانمائة وسبعة وخمسون مثقالًا، وخمسون قارورة دهْن بلْسان، وعشرون قطعة بِلَّوْر، وأربع عشرة قطعة جزع، وإبريق يشم، وطست يشم، وصحون صينيّ، وزبادي أربعون، وكُرَتان عُود قماريّ وزن إحداهما ثلاثون رِطْلًا بالمصريّ، والأخرى أحد وعشرون، ومائة ثوب أطْلَس، وأربعة وعشرون -[235]- بقيارا مذهبة، وخمسون ثوبا حرير، وحلة فلفلي مذهّب، وحلَّة مرايش صفراء، وغير ذَلِكَ من القماش قيمتها مائتان وخمسة وعشرون ألف دينار، وعدَّة من الخيل والغلْمان والْجَوَاري والسّلاح، ولم تصل إلى نور الدّين؛ لأنه مات، فمنها ما أُعيد ومنها ما استُهْلك، لأنّ الفقيه عيسى وابن القَيْسرانيّ وضعا عليها من نهبها واستبدّا بأكثرها. وقيل: رُدَّت كلّها إلى صلاح الدّين، وكان معها خمسة أحمال مالا.

وتحرّكت الفرنج بالسّواحل، وكان بدمشق الملك الصّالح إِسْمَاعِيل ابن السّلطان نور الدّين، صبيّ عمره عشر سنين أو أكثر، فاستنجد بصلاح الدّين صاحب مصر. وبلغ صلاحَ الدّين نزولُ الملاعين عَلَى بانياس، فصَالحهم الأمراء وأهل دمشق، وهادنوهم عَلَى مالٍ وأَسارَى يُطْلَقُون. فكتب إلى جماعة يوبخهم، فكتب إلى الشيخ شرف الدين ابن أَبِي عصرون يخبره أَنَّهُ لمّا أتاه كتاب الملك الصّالح تجهّز للجهاد وخرج، وسار أربع مراحل، فجاءه الخبر بالهدنة المؤْذِنة بذُلّ الْإِسْلَام، من رفْع القطيعة، وإطلاق الأَسارَى، وسيّدنا المسيح أوّل من جرّد لسانه الَّذِي تُغمد لَهُ السّيوف وتُجَرّد. وكتب فِي ذي الحجَّة من السّنة.

مصرع الّذين سَعَوْا فِي إعادة دولة بني عبيد

كانت دولة العاضد وذويه لذيذة لأُناس، وهم يتقلَّبون فِي نعيمها، فأُخِّروا وأُبْعِدوا، فذكر جمال الدّين بْن واصل وغيره أنّ فِي سنة تسعٍ وستّين أراد جماعةٌ من شيعة العُبَيْديّين ومُحِبّيهم إقامةَ الدّعوة وردَّها إلى العاضد، فكان منهم عُمارةُ اليَمنيّ وعبدُ الصمد الكاتب والقاضي هبة الله ابن كامل وداعي الدّعاة ابن عَبْد القَوِيّ وغيرهم من الْجُنْد والأَعيان والحاشية، ووافقهم عَلَى ذَلِكَ جماعةٌ من أمراء صلاح الدّين، وعيّنوا الخليفة والوزير، وتقاسموا الدُّور؛ واتّفق رأيُهم عَلَى استدعاء الفرنج من صَقَلِّية والشّام يقصدون مصر ليَشْغَلوا صلاح الدّين بهم ويحلو لهم الوقْت، ليتمّ أمرُهُم ومكرهم، -[236]- وقال لهم عُمارة اليمنيّ: أَنَا قد أبعدت أخاه تورانشاه إلى اليمن خوفًا من أن يسدّ مَسَدَّه، وقرّروا الأمور، وكاد أمرهم أن يتمّ، وأبى اللَّهُ إلّا أن يُتِمّ نورَه، فأدخلوا فِي الشُّورَى الواعظ زين الدّين علي بْن نجا، فأظهر لهم أَنَّهُ معهم، ثمّ جاء إلى صلاح الدّين فأخبره، وطلب من صلاح الدّين ما لابن كامل من الحواصل والعقار، فبذل لَهُ، وأمره بمخالطتهم وتعريف شأنهم، فصار يُعْلِمُه بكلّ مُتَجَدَّد. فجاء رسول ملك الفرنج بالسّاحل إلى صلاح الدّين بهديَّةٍ ورسالة، وفي الباطن إليهم. وأتى الخبر إلى صلاح الدّين من أرض الفرنج بَجليَّة الحال، فوضع صلاح الدّين عَلَى الرَّسُول بعضَ من يثق إِلَيْهِ من النّصارى، فداخَل الرَّسُولَ فأخبره بحقيقة الأمر.

وقيل: إنّ عَبْد الصّمد الكاتب كَانَ يلقى القاضي الفاضل بخضوعٍ زائد، فلقِيَه يومًا فلم يلتفت إِلَيْهِ، فقال القاضي الفاضل: ما هذا إلّا لسبب. فأحضر ابن نجا الواعظ وأخبره الحال، وطلب منه كشف الأمر، فأخبره بأمرهم، فبعثه إلى صلاح الدّين فأوضح لَهُ الأمر، فطلب صلاح الدّين الجماعة، وقرَّرهم فأقرّوا؛ وكان بين عُمارة وبين الفاضل عداوة، فلمّا أراد صلاح الدّين صلْبَه تقدَّم الفاضل وشفع فِيهِ، فظنّ عُمارة أَنَّهُ يحثّه عَلَى هلاكه، فنادي: يا مولانا، لا تسمع منه فِي حقّي. فغضب القاضي الفاضل وخرج، فقال صلاح الدّين: إنّما كَانَ يشفع فيك. فندِم، وأُخرج ليُصْلَب، فطلب أن يمرّوا بِهِ عَلَى مجلس القاضي الفاضل، فاجتازوا بِهِ عَلَيْهِ فأغلق بابه، فقال عُمارة:

عَبْدُ الرّحيم قد احتجبْ ... إنّ الخلاصَ من الْعَجَبْ

ثمّ صُلِبَ هُوَ والجماعة بين القصرين، وذلك فِي ثاني رمضان، وأفنى بعد ذَلِكَ من بقي منهم.

قَالَ العماد الكاتب: وكان منهم داعي الدُّعاة ابن عَبْد القويّ، وكان عارِفًا بخبايا القصر وكنوزه، فباد ولم يسمح بإبدائها. وأمّا الّذين نافقوا عَلَى صلاح الدّين من جُنْده فلم يعرِض لهم، ولا أعلمهم بأنّه علم بهم. وكان ممّن صُلِب القاضي العوريس؛ فحكى القاضي تاج الدّين ابن بنت الأعز أن قاضي -[237]- القضاة عوريس رأى عيسى ابن مريم كأنه أخرج له رأسه من السماء، فقال له العوريس: الصّلب حقّ؟ فقال لَهُ ابن مريم: نعم. فعبرها العابر وقال: صاحب هذه الرؤيا يصلب لأنّ المسيح معصوم، ولا يمكن أن يكون ذَلِكَ راجعًا إِلَيْهِ، لأن اللَّه تعالى نصّ لنا أَنَّهُ لم يُصْلَب، فبقي أن يكون راجعا للرائي. وجاء الكتاب إلى دمشق بقصة هَؤُلَاءِ يوم موت نور الدّين رحمه اللَّه، وكانوا أيضًا قد كاتبوا سنانا وأهل الحصون يستعينون بهم.

فلما كان في السادس والعشرين من ذي الحجة وصل أصطول الفرنج من صَقَلّية، فنازلوا الإسكندريَّة بغتة، فجاءوا بناء على مراسلة الذين صلبوا، وكان معهم ألف وخمسمائة فَرَس، وعُدّتُهم ثلاثون ألف مقاتل من بين فارس وراجل، وكان معهم مائتا شِينيّ وستّ سُفُن كبار وأربعون مركبًا، وبرز لحربهم أهل الثّغر، فحملوا عَلَى المسلمين حملةً أوصلتهم إلى السّور، ففُقِد من المسلمين فوق المائتين، فلمّا أصبحوا زحفوا عَلَى الإسكندريَّة، ونصبوا ثلاث دبّابات بكِباشها، وهي كالأبراج، وثلاثة مجانيق تضرب بحجارةٍ سُود، استصحبوها من صَقَلّية، فزحفوا إلى أن قاربوا السّور، فرأى الفرنج من شجاعة أهل الإسكندريَّة ما رَاعَهُم. وبُعثت بطاقة إلى الملك صلاح الدّين وهو نازل عَلَى فاقوس، فاستنهض الجيش وبادروا، واستمرّ القتال.

وفي اليوم الثّالث فتح المسلمون باب البلد، وكبسوا الفرنج عَلَى غفلةٍ، وحرّقوا الدّبّابات، وصدقوا اللّقاء، ودام القتال إلى العصر، ونزل من اللَّه النّصر، واستحرّ بالفرنج القتْل. وردّ المسلمون إلى البلد لأجل الصّلاة، ثمّ كبّروا عند المغرب، وهاجموا الفرنج فِي خيامهم، فتسلّموها بما حَوَت، وقتلوا من الرّجّالة ما لا يوصف. واقتحم المسلمون البحر، فغرّقوا المراكب وحرّقوها، وهربت باقي المراكب، وصار العدو بين أسير وقتيل وغريق، واحتمى ثلاثمائة فارس في رأس تلّ فأُخذوا أسرى، وغنم المسلمون غنيمةً عظيمةً، فلله الحمد كثيرا. -[238]-

وفي آخر السّنة هلك مُرّي ملك الفرنج لا رحمه اللَّه، وهو الَّذِي حاصر القاهرة وأشرف على أخذها.

ولمّا بلغ صلاح الدّين سوء تدبير الأُمراء فِي دولة ابن نور الدّين كتب إليهم ونهاهم عَنْ ذَلِكَ. فكتب إِلَيْهِ ابن المقدَّم يردعه عَنْ هذه العزيمة، ويقول لَهُ:

" لا يُقال عنك إنّك طمَعْتَ فِي بيت مَنْ غرسك، ورباك وأسسك، وأصفى مشربك، وأضوى مَلْبَسَك، وفي دَسْت ملْك مصر أجْلَسَك، فما يليق بحالك غيرُ فضلك وإفضالِك ". فكتب إِلَيْهِ صلاح الدّين: إنّه لا يُؤْثِر للإسلام وأهله إلّا ما جَمَعَ شَمْلَهم، وألَّف كلمتهم، وللبيت الأتابكيّ، أعلاه اللَّه تعالى، إلّا ما حفظ أصله وفَرْعَه، فالوفاء إنّما يكون بعد الوفاة، ونحن في واد، والظانون بنا ظن السوء في واد.

وفيها وَعَظ الطُّوسيّ بالتّاجيَّة من بغداد، فقال: ابن مُلْجَم لم يكفر بقتْله عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فجاءه الآجُرّ من كلّ ناحية، وثارت عَلَيْهِ الشّيعة، ولولا الغلمان الّذين حوله لَقُتِلَ. ولمّا همّ الميعادُ الآخر بالجلوس، تجمّعوا ومعهم قوارير النِّفْط ليحرّقوه، فلم يحضر، فأحرقوا مِنْبره، وأحضره نقيب النّقباء وسبّه، فقال: أنت نائب الدّيوان، وأنا نائب الرَّحْمَن. فقال: بل أنت نائب الشّيطان. وأمر بِهِ فسُحِب ونُفي، فذهب إلى مصر وعظُم بها، ولَقَبُه: الشّهاب الطوسي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015