-سنة سبعين وخمسمائة

فيها أعيد أبو الحسن ابن الدامغاني إلى قضاء القضاة ببغداد بعد أن بقي معزولا خمسة عشر عاما.

وفيها أراد المستضيء بالله إعادة ابن المظفّر إلى الوزارة، فغضب من ذَلِكَ قايماز، وأغلق باب النُّوبيّ، وبات العامَّة وهم بأمر سوء، وقال: لا أقيم ببغداد حتّى يخرج منها ابن المظفّر هُوَ وأولاده، فإنّه عدوّي، ومتى عاد إلى الوزارة قتلني، فقيل لابن المظفّر: تخرج من البلد. فقال: لا أفعل. فلمّا شُدِّد عَلَيْهِ قَالَ: إنْ خرجت قُتِلت، فاقتلوني فِي بيتي. فتلطّفوا بِهِ، فجاء فخر -[239]- الدولة ابن المطَّلِب وشيخ الشّيوخ، وحلف لَهُ قايماز أن لا يؤذيه ولا يتبعه. وأصبح العسكر فِي السّلاح، والدّروب تُحْفَظ، ثمّ خرج بالليل الوزير ابن رئيس الرؤساء وأولاده، وسكن البلد. ثم دخل قايماز إلى الخليفة فاعتذر، ثم خرج طيب النفس. ثم بقيت الرسل تتردد، واستقر الأمر أن ابن رئيس الرؤساء يعبر إلى الجانب الغربي.

وفي رجب تكلم ابن الجوزيّ، قَالَ: تقدّم إليَّ بالجلوس تحت منظرة أمير المؤمنين، فتكلمت بعد العصر، وحضر السّلطان، واكترى النّاس الدّكاكين، وكان موضع كلّ رَجُل بقيراط، حتّى إنّه اكتُرِيَت دُكّانٌ بثمانية عشر قيراطًا، ثمّ جاء رَجُلٌ فأعطاهم ستَّة قراريط حتّى جلس معهم. ودرّست بالمدرسة الّتي وَقَفْتها أمّ الخليفة، وحضر قاضي القُضاة، وخُلِعَت عليَّ خِلْعة، وألقيت يومئذٍ دروسًا كثيرة من الأُصول والفُروع. ووقف أهل بغداد من باب النُّوبّي إلى باب هذه المدرسة كما يكون العيد وأكثر، وعلى باب المدرسة أُلُوف، وكان يومًا مشهودًا لم يُرَ مثلُه. ودخل عَلَى قلوب أرباب المذاهب غمٌّ عظيم، وتقدَّم ببناء دِكَّةٍ لنا في جامع القصر فانزعجوا، وقالوا: ما جَرَت عادة الحنابلة بدِكَّة؛ فبُنيت وجلست فيها.

وكان الأمير تُتَامُش قد بعث إلى بلد الغرّاف من نهبهم وآذاهم، ونجا منهم جماعة، فاستغاثوا، ومنعوا الخطيب أن يخطب، وفاتت الصّلاة أكثر النّاس، فأنكر أمير المؤمنين ما جرى، وأمر تُتَامُش وزوج أخته قايماز، فلم يَحْفِلا بالإنكار، وأصرّا عَلَى الخلاف، وجرت بينهما وبين ابن العطّار مُنَابَذَات، ثمّ أصلح بينهم. فلمّا كَانَ الغد، أظهروا الخلاف، وضربوا النَّار فِي دار ابن العطّار، وطلبوه فاختفى. فطلب الخليفة قايماز، فأبى وبارز بالعناد.

وكان قد حلّف الأمراء، وخرج هُوَ وتُتَامِش وجماعةٌ من الأمراء من بغداد، فَنَهَبت العوامُّ دُورَهم، وأخذوا أموالًا زائدة عن الحد.

قال ابن الأثير: ودخل بعض الصّعاليك فأخذ أكياس دنانير، وفزع لا يؤخذ منه، فدخل إلى مطبخ الدّار، فأخذ قِدْرةً مملوءة طبيخًا، فألقى فيها -[240]- الدنانير وحملها عَلَى رأسه، فضحك النّاس منه، فقال: دعوني أطعمه عيالي ثمّ استغنى بعد ذَلِكَ، ولم يبق من نعمة قُطْب الدّين فِي ساعةٍ واحدة لا قليل ولا كثير. وأمّا العامَّة فثاروا بأعوان قُطْب الدّين، وأحرقوا من دُورهم مواضعَ كثيرة، وبقي أهلها فِي جَزَع وحَيْرة، وقصدوا الحِلَّة، ثمّ طلبوا الشّام وقد تقلّل جَمْعُهُم، وبقي مع قايماز عدد يسير.

ثمّ خُلع عَلَى الوزير ابن رئيس الرؤساء، وأعيد إلى الوزارة، وكتب الفقهاء فتاويهم أنّ قايماز مارِق، وذلك فِي ذي القعدة. ثمّ جاء الخبر فِي ذي الحجَّة أنّ قايماز تُوُفّي، وأنّ أكثر أصحابه مَرْضَى، فسبحان مُزِيل النِّعَم عَنِ المتمرّدين.

وفيها ملك صلاح الدّين دمشق بلا قتال، وكتب إلى مصر رَجُلٌ من بُصْرَى فِي الرابع والعشرين من ربيع الأوّل، وقد توجّه صاحبها فِي الخدمة: ثمّ لقينا ناصر الدّين ابن المولى أسد الدّين والأمير سعد الدّين بْن أُنُر، ونزلنا فِي الثّامن والعشرين بجسر الخَشَب، والأجناد إلينا متوافية من دمشق. وأصبحنا ركِبْنا عَلَى خيرة اللَّه، فعرض دون الدّخول عددٌ من الرجال، فَدَعَسَتْهم عساكرنا المنصورة وصَدَمتهم، ودخلنا البلد، واستقرّت بنا دار ولدنا، وأَذَعْنا فِي أرجاء البلد النّداء بإطابة النّفوس وإزالة المُكُوس، وكانت الولاية فيهم قد ساءت وأسرفت وأجحفت، فشرعنا في امتثال أمر الشرع.

ثم نازل صلاح الدين حمص، ونصبت المجانيق على قلعتها حتى دكتها. وسار إلى حماه فَمَلَكَها فِي جُمادى الآخرة، ثمّ سار إلى حلب وحاصرها إلى آخر الشهر، واشتد على الصالح إسماعيل ابن نور الدّين بها الحصار، وأساء صلاح الدّين العشرة في حقّه، واستغاث الصّالح بالباطنيَّة ووعدهم بالأموال، فقتلوا الأمير ناصح الدّين خُمارتِكِين وجماعة، ثم قتلوا عن آخرهم. ورجع النّاصر صلاح الدّين إلى حمص فحاصرها بقية رجب، وتسلمها بالأمان في شعبان. ثم عطف على بعلبك فتسلمها، ثمّ ردّ إلى حمص وقد اجتمع عسكر حلب، وكتبوا إلى صاحب الموصل فجهّز جيشه، وأمدّهم بأخيه عزّ الدّين مَسْعُود بْن مودود بْن زنكيّ، فأقبل الكلّ إلى حماه فحاصروا البلد، فسار صلاح الدّين فالتقاهم عَلَى قُرون حماه، فانكسروا أقبح كسْرة، ثمّ سار إلى جهة حلب.

ثم وقع الصلح بينه وبين ابن زنكيّ عَلَى أن يكون لَهُ إلى آخر بلد حماة -[241]- والمَعَرَّة، وأن يكون لابن نور الدّين حلب وجميع أعمالها. وتحالفوا وردّ إلى حماه، فجاءه رُسُلُ المستضيء بالهدايا والتشريفات والتهنئة بالملك.

ثمّ سار إلى حصن بارين، فحاصره ثمّ أخذه.

وأنعم بحمص عَلَى ابن عمّه الملك ناصر الدين محمد ابن أسد الدّين شيركوه، واستناب بقلعة دمشق أخاه سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين. ورجع من حمص فسار إلى بعلبك، فأخذها من الخادم يُمْن الرَّيْحانيّ ثمّ أعطاها للأمير شمس الدين محمد ابن المقَّدم، فعصى عَلَيْهِ فِي سنة أربعٍ وسبعين فسار إليه، ثم حاصره أشهرا.

ومن كتاب فاضليّ إلى العادل نائب مصر عَنْ أخيه صلاح الدّين: " قد أعلمنا المجلس أنّ العدوّ المخذول كَانَ الحلبيّون قد استنجدوا بصُلْبانهم واستطالوا عَلَى الْإِسْلَام بعدوانهم، وأنّه خرج إلى حمص، فوردنا حماه وترتّبنا للّقاء، فَسَار العدوّ إلى حصن الأكراد متعلّقًا بحبله مفتَضَحًا بحِيَله، وهذا فتحٌ تُفْتَح لَهُ القلوب، قد كفى اللَّه فِيهِ القتال المحسوب.

ومن كتاب فاضلي إلى الدّيوان العزيز من السّلطان مضمونه تعداد ما للسلطان من الفتوحات، ومن جهاد الفرنج مَعَ نور الدّين، ثمّ فتح مصر واليمن وأطراف المغرب، وإقامة الخطْبة العبّاسيَّة بها، ويقول فِي كتابه: " ومنها قلعةٌ بثغر أَيْلَة بناها العدوّ فِي البحر، ومنه المَسْلَك إلى الحرمين، فغزوا ساحل الحَرَم، وقتلوا وسبوا، وكادت القِبْلة أن يُستولَى عَلَى أصْلها، والمشاعر أن يسكنها غيرُ أهلها، ومضجع الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتطرّق إِلَيْهِ الكُفّار. وكان باليمن ما عُلِم من الخارج ابن مهديّ الملْحد، الَّذِي سبى الشّرائف الصّالحات وباعهنَّ بالثّمن البَخْس واستباحهنّ، ودعا إلى قبر أَبِيهِ وسمّاه كعبة، وأخذ الأموال، فأنهْضنا إِلَيْهِ أخانا بعسكرنا فأخذه، والكلمة هناك بمشيئة اللَّه إلى الهند سامية. ولنا فِي المغرب أثرٌ أغرب، وفي أعماله أعمال دون مطلبها مهالك، كما المهلك دون المطْلب، وذلك أنّ بني عَبْد المؤمن قد اشتهر أنّ أمرهم قد أَمِر، وملكهم قد عُمِر، وجيوشهم لا تطاق، وأمرهم لا يُشاقّ، ونحن فتملّكنا ما يجاورنا منه بلادًا تزيد مسافتها عَلَى شهر، وسيّرنا إِلَيْهِ عسكرًا بعد عسكر، فرجع بنصر بعد نصر، ومن ذلك: برقة، قفصة، قسطيلة، تَوْزَرَ؛ كلّ هذه تُقام فيها الخطبة لأمير المؤمنين، ولا عهْدَ لإقامتها من دهر. -[242]-

وفي هذه السّنة كَانَ عندنا وفدٌ نحو سبعين راكبا، كلهم يطلب لسلطان بلده تقليدًا، ويرجو منَّا وعدًا ويخاف وعيدًا، وسيّرنا الخِلَع والمناشير والأَلْوية. فأمّا الأعداء الّذين يقاتلوننا، فمنهم صاحب قسطنطينة؛ وهو الطّاغية الأكبر، والجالوت الأكفر، جَرَت لنا معه غَزَوات بحريَّة، ولم نخرج من مصر إلى أنْ وصَلَتْنا رسالةٌ فِي جُمعةٍ واحدةٍ نوبتين بكتابين، يُظْهر خفْضَ الْجَنَاح والانتقالَ من مُعاداةٍ إلى مهاداة، ومن مُفَاضَحَةٍ إلى مُنَاصَحَة، حتّى أندر بصاحب صَقَلّية وأساطيله، وهو من الأعداء، فكان حين علم بأنّ صاحب الشّام وصاحب قسطنطينيَّة قد اجتمعا فِي نَوْبة دِمياط فكسروا، أراد أن يظهر قوّته المستقلة، فعمّر أسطولًا استوعب فِيهِ ماله وزمانه، فله الآن خمسُ سنين يُكْثِر عُدّته وينتخب عدته، إلى أن وصل منها فِي السّنة الخالية إلى الإسكندرية أمْرُ رائع، وخَطْب هائل، ما أثقل ظهْرَ البحر مثلُ حمْله، ولا ملأ صدرهُ مثلُ خيله ورَجُله، وما هُوَ إلّا إقليم نقله، وجيش ما احتفل ملك قطّ بنظيره، لولا أنّ اللَّه خذله.

ثمّ عدَّد أشياء، إلى أن قَالَ: والمُراد الآن تقليدٌ جامعٌ بمصر واليمن والمغرب والشّام، وكلّ ما تشتمل عَلَيْهِ الولاية النّوريَّة، وكلّ ما يفتحه اللَّه للدّولة العبّاسيَّة بسيوفنا، ولمن يقيم من أخٍ وولدٍ من بعدنا تقليدًا، يضمن للنّعمة تخليدًا، وللدعوة تجديدًا، مَعَ ما تنعم عَلَيْهِ من السِّمات الّتي فيها المُلْك، والفرنج فهم يعرفون منّا خصمًا لا يملّ حتّى يملّوا، وقَرْنًا لا يزال يحرم السّيفَ حتّى يُحِلِّوا، وإذا شدّ رأينا حُسْن الرأي ضربْنا بسيفٍ يقطع فِي غمده، وبلغنا المُنَى بمشيئة اللَّه، ويد كلٍّ مؤمن تحت برده، واستعدنا أسيرًا من المسجد الأقصى الَّذِي أسرى اللَّه إليه بعبده.

وفيها ملك البهلوان بْن إلْدكز مدينة تُوريز بالأمان، واستعمل عليها أخاه قُرا رسلان، وتسلم مراغة.

قَالَ ابن الأثير فِي فتنة قطب الدّين قايماز: ولما أقام قايماز بالحلة امتنع الحاج من السَّفَر، فتأخّروا إلى أن رحل، فبادروا ورحلوا من الكوفة إلى عَرَفَات فِي ثمانية عشر يومًا، وهذا ما لم يُسْمَع بِمِثْلِهِ، ومات كثيرٌ منهم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015