قَالَ ابن الجوزيّ: جلست يوم عاشوراء بجامع المنصور، فحضر من الجمع ما حزر بمائة ألف. وفيها وقعت الأراجيف بمجيء العسكر من هَمَذَان، فأخذ الخليفة فِي التّجنيد وعمارة السّور، وجَمَع الغلات وعرض العساكر.
وعمل ختان إخوة الخليفة وأقاربه، فتفرّقت الخِلَع، وذُبح ألف رأس غنم، وثلاثة آلاف دجاجة، وعشرون ألف خشكنانكة، وغير ذلك.
وفي رجب تقدَّم إليَّ بالجلوس بباب بدر ليسمع الخليفة، فكنت أجلس أسبوعًا وأبو الخير القزويني أسبوعا، إلى آخر رمضان، وجَمْعي عظيم، وجمْعُه يسير. ثمّ شاع أنّ أمير المؤمنين لا يحضر إلا مجلسي، وكانت زيادة عظيمة ببغداد.
قَالَ ابن الأثير: وفيها سار طائفة من التُّرك مَعَ قراقوش مملوك تقي الدّين عُمَر ابن أخي السّلطان صلاح الدّين إلى جبال نَفُّوسَه، فاجتمع بِهِ بعض المقدَّمين هناك، فاتّفقا وكثر جمعُهُما، ونزلا عَلَى طرابُلُسَ الغرب فحاصراها مدَّةً، ثمّ فُتِحَت، فاستولى عليها قراقوش وسكنها، وكثرت عساكره.
وفيها افتتح شمس الدّولة أخو صلاح الدّين بَرَقة عَلَى يد غلامٍ لَهُ تُركيّ، ثمّ سار وافتتح اليمن بعد ذَلِكَ، وقبض عَلَى ابن مهديّ الخارج باليمن؛ وكان شابًّا أسود، منحل الاعتقاد.
وفيها سار صلاح الدّين بعساكر مصر يريد الكَرَك، وإنما بدأ بها لقُربها إِلَيْهِ، وكانت تمنع من يقصد الدّيار المصريَّة، وتقطع القوافل، فحاصرها وقاتل الفرنج، ثمّ رجع ولم يفتحها.
وفيها مات خُوارَزْم شاه أرسلان ومَلَكَ بعده ابنه الصغير محمود، وكان -[231]- ابنه الكبير علاء الدين تكش غائبا نائبا لأبيه عَلَى الْجُنْد، فاستنجد بالخطا وأقبل بهم، فاستعان أخوه محمود بصاحب نَيْسابور المؤيّد، وعملوا المُصافّ، فأسِر المؤيّد وذبح صبْرًا، وهرب محمود وأُسرت أمّه فيما بعد، وقُتِلت، وثبت قدم تكش في الملك، فجاءته رسُلُ صاحب الخطا بأمور مُشِقَّة واقتراحات صَعْبة، فقتل كلّ من عنده مِن الخطا، ونبذ إلى ملك الخطا، فسار محمود إلى ملك الخطا فجهَّز معه جيشًا، فنازل خُوارَزْم وحصرها، فأمر تكش بإجراء ماء جيحون فكادوا يغرقون، فرحلوا وندموا، فسَار محمود بهم فأخذ مَرْو، فعادت الخطا إلى بلادها؛ وجعل محمود الغز من دأبه، وحاربهم وأوطأهم ذُلًّا، ثمّ افتتح مدينة سَرْخَس سنة ستٍّ وسبعين، ثم أخذ طوس.
وأما نيسابور ومملكتها فتولّاها طُغان شاه بعد والده المؤيَّد، وكان لَعّابًا مُسْرِفًا عَلَى نفسه، مَلَكَ أربع عشرة سنة ومات.
وفيها - فِي جُمَادَى الأولى - هزم مليح بْن لاون الأرمنيّ النّصرانيّ صاحب بلاد الدّرُوب وسِيس عسكر الروم، لعنهم الله معا، وذلك أنّ نور الدّين - رحمه اللَّه - كَانَ قد استخدم صاحب سِيس هذا وأقطعه واستماله، وظهر لَهُ منه نُصْحه، وكان ملازِمًا لخدمة نور الدّين، مُعِينًا لَهُ عَلَى الفرنج، ولمّا قِيلَ لنور الدّين فِي معنى استخدامه وإعطائه بلادَ سِيس قَالَ: أَستعين بِهِ عَلَى قتال أهل مِلَّته وأُريح طائفةً من عسكري، وأجعله سدًّا بيننا وبين صاحب القُسطنطينيَّة. فجهَّز إِلَيْهِ صاحب الروم جيشًا كثيفًا، فالتقاهم، ومعه طائفة من عسكر المسلمين، فهزمهم، وكثُر القتْل والأسرُ في الروم، وقويت شوكة مليح.
وفيها سار نور الدّين إلى بلاد الشّرق، فصلّى فِي جامع المَوْصِل الَّذِي بناه، وتصدّق بمالٍ عظيم، ثمّ ردّ وقطع الفُرات، وقصد ناحية الروم فافتتح بهسنا ومرعش، وردّ إلى الشّام ومعه ابن الدّانشمنْد ووعده بخلاص بلاده، فبعث قلج أرسلان إلى نور الدّين يخضع لَهُ، وأن يردّ إلى ابن الدّانشمنْد قِلاعه، فشرط عَلَيْهِ نور الدّين تجديدَ إسلامه، لأن قلج أرسلان اتهم بالزندقة، -[232]- وأنه متى طلب منه عسكره ينجده بِهِ، وأن يزوِّج بِنْت قلج أرسلان بابن أخيه سيف الدّين غازي صاحب الموصل. ففعل، وبعث نور الدّين فِي خدمة ابن الدّانشمنْد عسكرًا صُحبة الأمير فخر الدّين عَبْد المسيح إلى مَلَطْيَة وسِيواس، فلمّا مات نور الدّين عادت البلاد إلى قلج أرسلان.
وفيها قدِم القُطْب النَّيسابوريّ من حلب إلى دمشق، فدرس بالغزالية.
وشرع نور الدّين فِي بناء مدرسةٍ للشّافعيَّة، ووضع محرابها، فمات ولم يُتِمَّها. وبقي أمرها عَلَى حاله إلى أن أزال الملك العادل ذَلِكَ البناء وعملها مدرسةً عظيمة؛ فهي العادليَّة.