قد ذكرنا أنّ الخليفة قال لمسعود: أرحل عنّا، وأنه بعث إليه بالخِلَع والتّاج، ثمّ نفذ إليه الجاولي شحنة بغداد، مضايقًا له على الخروج، وأمره إن هو دافع أن يرمي خيمه، ثمّ أحسَّ منه أنّه قد باطَنَ الأتراك، واطّلع منه على سوء نِية، فأخرج أمير المؤمنين سُرَادقه، وخَرَج أرباب الدّولة، فجاء الخبر بموت طُغْرُل، فرحل مسعود جريدةً، وتلاحَقَتْه العساكر، فوصل هَمَذَان، واختلف عليه الجيش، وانفرد عنه قُزُل، وسُنْقُر، وجماعة، فجهز لحربهم، وفرّق شملهم، فجاء منهم إلى بغداد جماعة، وأخبروا بسوء نيته، منهم البازدار، وقزل، وسنقر.
وسار أنوشروان بأهله إلى خُراسان لوزارة السّلطان مسعود، فأخذ في الطريق. -[356]-
وفيها افتتح أتابك زنكيّ بن آقْسُنْقُر المَعَرَّة، فأخذها من الفرنج، وكان لها في أيديهم سبعٌ وثلاثون سنة، ورد على أهلها أملاكهم، وكثر الدعاء له.
وفيها قدم من الموصلَ ابن زنكيّ من عند والده بمفاتيح المَوصل مُذْعِنًا بالطّاعة والعُبوديَّة للخليفة، فخرج الموكب لتلقيه، وأكرم مورده، ونزل وقبل العتبة، وجاء رسول دُبَيْس يقول: أنا الخاطئ المُقِرّ بذنْبه، فمات رسوله، فذهب هو إلى مسعود.
وجاء السديد ابن الأنباري من عند السّلطان سنْجر، ومعه كتابه يقول فيه: أنا العبد المملوك.
ثمّ تواترت الأخبار بعزم مسعود على بغداد، وجمع وحشد، فبعث الخليفة إلى بكبة نائب البصرة، فوعدَ بالمجيء، ووصل إلى حلوان دبيس وهو شاليش عسكر مسعود، فجهّز الخليفة ألفيْ فارس تقدّمه، وبعث إلى أتابك زنكيّ، وكان مُنازِلًا دمشق ليسرع المجيء.
وبعث سَنْجَر إلى مسعود: أن هؤلاء الأمراء، وهم البازدار وابن برسق، وقزل، وبرنقش، ما يتركونك تنال غَرَضًا لأنّهم عليك، وهم الّذين أفسدوا أمر أخيك طُغْرُل، فابعث إليَّ برؤوسهم، فأطلعهم على المكاتبة، فقبّلوا الأرض وقالوا: الآن علمنا أنّك صافٍ لنا، فابعث دُبَيْسًا في المقدّمة، ثمّ اجتمعوا وقالوا: ما وراء هذا خير، والرأي أن نمضي إلى أمير المؤمنين، فإن له في رقابنا عهدًا، وكتبوا إليه: إنا قد انفصلنا عن مسعود، ونحن في بلاد برسُق، ونحن معك، وإلّا فاخطب لبعض أولاد السّلاطين، ونفّذه نكون في خدمته، فأجابهم: كونوا على ما أنتم عليه، فإني سائر إليكم، وتهيأ للخروج، فلما سمع مسعود بذلك ساق ليبيتهم، فانهزموا نحو العراق، فنهب أموالهم، وجاءت الأخبار، فهيأ لهم الخليفة الإقامات والأموال.
وخرج عسكر بغداد والخليفة، وانزعج البلد، وبعث مسعود خمسة آلاف ليكبسوا مقدّمة الخليفة، فبيّتوهم وأخذوا خيلهم وأموالهم، فأقبلوا عراة، ودخلوا بغداد في حالٍ ردية في رجب، فأطلق لهم ما أصلح أمرهم، وجاء الأمراء الكبار الأربعة في دجلة فأكرموا وخُلِع عليهم، وأُطلق لهم ثمانون ألف -[357]- دينار، ووعدوا بإعادة ما مضى لهم، وقطعت خطبة مسعود وخطب لسنجر، وداود.
ثمّ برز الخليفة، وسار في سبعة آلاف فارس، وكان مسعود بهمذان في ألفٍ وخمسمائة فارس، ثم أفسد نيات نواب الأطراف بالمكاتبة، واستمالهم حتّى صار في نحو من خمسة عشر ألف فارس، وتسلَّل إليه ألفا فارس من عسكر المسترشد، ونفّذ زنكيّ إلى الخليفة نجدةً، فلم تلحق.
ووقع المصافّ في عاشر رمضان، فلمّا التقى الْجَمْعان هرب جميع العسكر الّذين كانوا مع المسترشد، وكان على ميمنته قزل، والبازدار، ونور الدولة الشحنة، فحملوا على عسكر مسعود، فهزموهم ثلاثة فراسخ ثمّ عادوا فرأوا المَيْسَرَة قد غدرت، فأخذ كلّ واحدٍ منهم طريقًا وأُسِر المسترشد وحاشيته، وأُخِذ ما معه، وكان معه خزائن عظيمة، فكانت صناديق الذَّهب على سبعين بغلًا أربعة آلاف ألف دينار، وكان الثّقْل على خمسة آلاف جَمَل، وخزانة السبق أربعمائة بغْل، ونادى مسعود: المال لكم، والدَّمُ لي، فمن قُتِلَ أَقَدْتُه، ولم يُقتل بين الصَّفَّيْن سوى خمسة أنْفُس غَلَطًا، ونادى: من أقام من أصحاب الخليفة قُتِلَ، فهرب النّاس، وأخذتهم التُّرْكُمان، ووصلوا بغداد وقد تشقَّقت أرجُلُهم، وبقي الخليفة في الأسر.
وبعث بالوزير ابن طِراد وقاضي القُضاة الزَّيْنبيّ، وبجماعةٍ إلى قلعة، وبعث بشحنة بغداد ومعه كتاب من الخليفة إلى أستاذ الدّار، أمره مسعود بكتابته، فيه: ليعتمد الحسين بن جَهِير مُراعاة الرّعيَّة وحمايتهم، فقد ظهر من الولد غياث الدّنيا والدّين، أمتع الله به في الخدمة ما صدقت به الظُّنُون، فلْيجتمع، وكاتب الزّمام وكاتب المخزن إلى إخراج العمّال إلى النّواحي، فقد ندب من الجانب الغياثيّ هذا الشِّحْنة لذلك، ولْيَهْتمّ بكِسوَة الكعبة، فنحن في إثر هذا المكتوب.
وحضر عيد الفِطْر، فنفر أهل بغداد، ووثبوا على الخطيب، وكسروا المنبر والشّبّاك، ومنعوه من الخطبة، وحثوا في الأسواق على رؤوسهم التُّراب يبكون ويضجّون، وخرج النّساء حاسراتٍ يندُبن الخليفة في الطُّرُق وتحت التّاج، وهمّوا برجْم الشحنة، وهاشوا عليه، فاقتتل أجناده والعوامّ، فقتِل من العوامّ -[358]- مائة وثلاثة وخمسون نفْسًا، وهرب أبو الكَرَم الوالي، وحاجب الباب إلى دار خاتون، ورمى أعوان الشحنة الأبواب الحديد التي عَلَى السور، ونقبوا فِيهِ فتحات، وأشرفت بغداد على النَّهْب، فنادى الشِّحْنة: لَا ينزل أحدٌ في دار أحد، ولا يؤخذ لأحدٍ شيء، والسلطان جائي بين يدي الخليفة، وعلى كتفه الغاشية، فسكن النّاس، وطلب السّلطان من الخليفة نظرا الخادم فنفّذ، أطلقه، وسار بالخليفة إلى داود، إلى مراغة.
وقال ابن الجوزيّ: وزلزلت بغداد مِرارًا كثيرة، ودامت كلّ يومٍ خمس أو ست مرّات إلى ليلة الثّلاثاء، فلم تزل الأرض تَمِيد من نصف اللّيل إلى الفجر، والنّاس يستغيثون.
وتصّرف عمّال السّلطان في بغداد، وعوّقوا قرى وليّ العهد، وختموا على غلّاتها، فافْتَكّ ذلك منهم بستّمائة دينار، فأطلقوها، وتفاقم الأمر، وانقطع خبر العسكر، واستسلم الناس، ثمّ أرسل سَنْجَر إلى ابن أخيه مسعود يقول: ساعة وقوف الولد غياث الدّنيا والدّين على هذا المكتوب يدخل على أمير المؤمنين ويقبل بين يديه، ويسأله العفو والصفح، ويتنصل غاية التّنصُّل، فقد ظهرت عندنا من الآيات السّماويَّة والأرضية ما لَا طاقة لنا بسماع مثلها، فضلًا عن المشاهدة من العواصف والبُرُوق والزلازل، ودوام ذلك عشرين يومًا، وتشويش العساكر وانقلاب البلدان، ولقد خِفْت على نفسي من جانب الله وظهور آياته، وامتناع الناس من الصّلوات في الجوامع، ومنْع الخُطَباء ما لَا طاقة لي بحمله، فالله الله بتلافي أمرك، وتعيد أمير المؤمنين إلى مقّر عزّه، وتسلِّم إليه دُبَيْسًا ليحكم فيه، وتحمل الغاشية بين يديه أنت وجميع الأمراء، كما جرت عادتنا وعادة آبائنا، فنفّذ مسعود بهذه المكاتبة مع الوزير، ونظر، فدخلا على الخليفة، واستأذنا لمسعود، فدخل وقبّل الأرض، ووقف يسأل العفو، فقال: قد عُفِي عن ذنْبك، فاسكن وَطِبْ نفسًا. -[359]-
ثمّ عامله مسعود بما أمره به عمّه، وسأل من الخليفة أن يُشَفَّعه في دُبَيْس، فأجابه، فأحضروه مكتوفا بين أربعة أمراء، ومع واحد سيف مجذوب، وكَفَن منشور، وأُلقي بين يدي السّرير، وقال مسعود: يا أمير المؤمنين هذا السّبب الموجب لِما تمّ، فإذا زال السّبب زال الخلاف، ومهما تأمر نفعل به، وهو يبكي ويتضرع ويقول: العفو عند القدرة، وأنا أقَلّ وأَذَلّ، فعفي عنه وقال: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} فحلوه، وقبّل يد أمير المؤمنين وأَمرَّها على وجهه، وقال: بقرابتك مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلّا ما عفوت عنّي، وتركتني أعيش في الدّنيا، فإنّ الخوف منك قد برح بي.
وأمّا بكبة شِحْنة بغداد، فإنّه أمر بنقْض السور ببغداد، فنقضت مواضع كثيرة، وقال: عمرتموه بفرح، فانقضوه كذلك، وضربت لهم الدبادب، وردوا الباب الحديد الّذي أُخِذ من جامع المنصُور إلى مكانه.
وقدم رسولٌ ومعه عسكر يستحث مسعودا من جهة عمّه على إعادة الخليفة إلى بغداد، فجاء في العسكر سبعة عشر من الباطنيَّة، فذُكر أنّ مسعودًا ما علم بهم، فالله أعلم، فركب السّلطان والعساكر لتلقي الرسول، فهجمت الباطنيَّة على الخليفة، ففتكوا به رحمه الله، وقتلوا معه جماعة من أصحابه، فعلم العسكر، فأحاطوا بالسُّرادق فخرج الباطنيَّة وقد فرغوا من شُغلهم، فقُتِلَوا، وجلس السّلطان للعزاء، ووقع النّحيب والبكاء، وذلك على باب مَرَاغة، وبها دُفن.
وجاء الخبر، فطلب الرّاشد النّاس طول الليل فبايعوه ببغداد، فلمّا أصبح شاع قتْله، فأغلق البلد، ووقع البكاء والنّحيب، وخرج النّاس حُفاةً مخرقين الثّياب، والنّساء منشّرات الشُّعور يلْطِمْن، ويقُلْن فيه المراثي على عادتهنّ، لانّ المسترشد كان محبَّبًا فيهم بمرة، لما فيه من الشّجاعة والعدل والرَّفْق بهم.
فمن مراثي النّساء فيه:
يا صاحب القضيب ونور الخاتم ... صار الحريم بعد قتلك مأتم
اهتزّت الدّنيا ومَن عليها ... بعد النّبيّ ومن ولي عليها
قد صاحت البومة على السُّرادق ... يا سيّدي ذا كان في السّوابق
تُرَى تراك العين في حريمك ... والطرحة السوداء على كريمك
وَعُمِلَ العزاء في الدّيوان ثلاثة أيام، تولى ذلك ناصح الدّولة ابن جَهير، وأبو الرّضا صاحب الديوان، ثم شرعوا في الهناء، وكتب السلطان إلى -[360]- الشِّحنة بكبة أن يبايع للرّاشد، وجلس الرّاشد في الشباك في الدار المثمنة المقتدوية، وبايعه الشحنة من خارج الشّبّاك، وذلك في السابع والعشرين من ذي القعدة، وظهر للنّاس، وكان أبيض جسيمًا بحمرةٍ مستحسنا، وكان يومئذٍ بين يديه أولاده وإخوته، ونادى بإقامة العدل ورد بعض المظالم.
وفي أيّام الغدير ظهر التَّشيُّع، ومضى خلقٌ إلى زيارة مشهد علي ومشهد الحسين.
وفيها نازل زنكيّ دمشق، وحاصرها أشدّ حصار، فقام بأمر البلدان أتمّ قيام، وأحبّه النّاس، فجاء إلى زنكي رسول المسترشد بالله يأمره بالرحيل.
وفي ذي القعدة سار السّلطان سَنْجَر بالجيوش إلى غَزْنَة فأشرف عليها، وهرب منه ملكها، فأمّنه ونهاه عن ظُلْم الرّعيَّة، وأعاده إلى مملكته، وهو بهرام شاه، ورجع السّلطان فوصل بلْخ في شوّال من سنة ثلاثين.