جاء برنقش بأمورٍ صعبة، فقالوا للراشد بالله: جاء مطالبًا بخطٍ كتبه المسترشد بالله لمسعود ليتخلص من أسره بمبلغ، وهو سبعمائة ألف دينار، ويطالب لأولاد صاحب المخزن بثلاثمائة ألف، وبقسط على أهل بغداد خمسمائة ألف دينار، فاستشار الراشد الكبار، فأشاروا عليه بالتجنيد، وأرسل الخليفة إلى برنقش: أما الأموال المضمونة فإنما كانت لإعادة الخليفة إلى داره، وذلك لم يكن، وأنا مطالب بالثّأر، وأما مال البيعة، فلَعَمري، لكن ينبغي أن تُعاد إلى أملاكي وإقطاعي، حتى يتصوَّر ذلك، وأما الرعيَّة فلا سبيل لكم عليهم، وما عندي إلّا السّيف، ثمّ أحضر كجبة وخلع عليه، وأعطاه ثلاثة آلاف دينار، وقال له: دون بهذه عسكرا، وجمع العساكر، وبعث إلى برنقش يقول: كنا قد تركنا البلد مع الشِّحْنة والعميد، فلما جئت بهذه الأشياء فعلنا هذا.
وانزعج أهل بغداد، وباتوا تحت السّلاح، ونقل النّاس إلى دار الخلافة ودار خاتون متاعهم، وقيل للخليفة: إنهم قد عزموا على كبس بغداد وقت الصّلاة، فركب العسكر، وحفظ النّاس البلد، وقطع الجسر، وجرى في أطراف البلد قتال قويٌ.
وفي صَفَر قدِم زنكيّ، والبازدار، وإقبال، عليهم ثياب العزاء، وحسّنوا للراشد الخروج فأجابهم، واستوزر أبا الرضا بن صَدَقة، واتفقوا على حرب -[361]- مسعود، وجاء السّلطان داود بن محمود فنزل بالمزرفة، ثمّ دخل دار المملكة، وأظهر العدل، وجاء إليه أرباب الدّولة ومعهم تقدمة من الراشد، فقام ثلاث مرات، يقبل الأرض، وجاء صَدَقة ولد دُبَيْس ابن خمس عشرة سنة وقبّل الأرض بإزاء التّاج وقال: أنا العبد ابن العبد جئت طائعًا، وقطعت خطبة مسعود، وخطب لداود.
وقبض على إقبال الخادم ونُهب ماله، فتألّم العسكر من الخليفة لذلك، ونفَّذ زنكيّ يقول: هذا جاء معي، ويعتب ويقول: لَا بدّ من الإفراج عنه، ووافقه على ذلك البازدار، وغضب كجبة ومضى إلى زنكيّ، فرتَّب مكانه غيره، واستشعر العسكر كلهم وخافوا، وجاء أصحاب البازدار وزنكيّ فخرّبوا عقْد السُّور، فشاش البلد، وأشرف على النَّهْب، وجاء زنكيّ فضرب بإزاء التّاج، وسأل في إقبال سؤالًا تحته إلزام، فأطلق له.
وأما السّلطان مسعود فإنه أفرج عن الوزير ابن طِراد، وقاضي القُضاة والنّقيب وسديد الدّولة ابن الأنباريّ، فأما نقيب الطّالبيّين أبو الحسن بن المعمّر فتُوُفيّ حين أُخرج، وأما القاضي الزَّينبيّ فدخل بغداد سرًا، وأقام الباقون مع مسعود.
وقبض الراشد على أستاذ داره أبي عبد الله بن جَهِير، فخاف النّاس من الراشد وهابوه.
ثمّ نفّذ زنكيّ إلى الراشد يقول: أريد المال الّذي أُخذ من إقبال، وهو دخل الحلَّة، وذلك مال السّلطان، وتردد القول في ذلك، ثمّ نفّذ الراشد إلى الوزير ابن صَدَقة وصاحب الدّيوان يقول: ما الّذي أقْعَدكُما؟ وكانا قد تأخّرا أيامًا عن الخدمة خوفًا من الراشد، فقال ابن صَدَقة: كلّما أُشير به يفعل ضدّه، وقد كان هذا الخادم إقبال بإزاء جميع العسكر، وأشرت بأن لَا يُمسك، فما سمع مني، وأنا لَا أوثر أن تتغيّر الدّولة وينْسَب إليّ، فإن هذا ابن الهارونيّ الملعون قصْده إساءة السُّمْعة وإهلاك المسلمين، فقبض الخليفة على ابن الهارونيّ في ربيع الأوّل، فجاءت رسالة زنكيّ يشكو ما لقي من ابن الهاروني وتأثيراته في المكوس والمواصير، ويسأل تسليمه إلى المملوك ليقتله، فقال: ندبّر ذلك، ثمّ أمر الوالي بقتله فقتله، وصُلب وَمَثَّلَ به العوامّ، فسرقه أهله بالليل، وعفَّوْا أثره، وظهر له أموال، ووصل إلى الخليفة من ماله مائتا ألف، وأُقطِعت أملاك الوكلاء، وسببه أن زنكيّ طلب من الخليفة مالًا يجهّز به العسكر لينحدروا إلى -[362]- واسط، فقال: الأموال معكم، وليس معي شيء، فاقطعوا البلاد.
ثمّ استقر أن يُدفع إلى زنكيّ ثلاثون ألفًا مصانعةً عن الأملاك، ثمّ بات الحَرَس تحت التاج خوفًا من زنكي، ثمّ أشار زنكيّ على ابن صَدَقة أن يكون وزيرًا لداود، فخلع عليه لذلك، ثمّ استوثق زنكيّ من اليمين من الخليفة وعاهده، وقبّل يده، وطلب الخليفة أبا الرضا بن صدقة فجاء، ففوض إليه الأمور كلها.
وأمر السّلطان داود والأمراء بالمسير لحرب مسعود، فساروا، فبلغهم أنّه رحل يطلب العراق، فردّهم الراشد وحلَّفهم، وقال: أريد أن أخرج معكم، فلما انسلخ شعبان خرج الخليفة ورحلوا، وخاف العّامة، وشرعوا في إصلاح السُّور، ولبِسوا السّلاح، فكان الأمراء ينقلون اللَّبِن على الخيل، وهم نقضوه.
وجاءت كتبٌ إلى سائر الأمراء من مسعود، فأحضروها جميعها إلى الخليفة، وأنكر شِحْنة بغداد المكاتبة وأخفاها، ثمّ كتب جوابها إلى مسعود، فأخذه زنكيّ فغرقه.
وفي وسط رمضان جاء عسكر مسعود فنازلوا بغداد، ووقع القتال، وخامر جماعة أمراء إلى الخليفة، فخلع عليهم وقبَّلهم، ثمّ بعد أيّام كان وصول رسول مسعود يطلب الصّلح، فقُرِئت الرسالة على الأمراء، فأبوا إلّا القتال.
وصلّى النّاس العيد داخل السّور، فوصل يومئذٍ أصحاب مسعود فدخلوا الرّصافة، وكسروا أبواب الجامع ونهبوا، وقلّعوا شبابيك التُّرَب وعاثوا، وجاء مسعود في رابع شوّال في خمسة آلاف راكب على غفْلة، وخرج النّاس للقتال، ودام الحصار أيّامًا، وجاء ركابي لزنكيّ، فقتله العّيارون فقال زنكيّ: أريد أن أكبس الشّارع والحريم، وآخذ ما قيمته خمسمائة ألف دينار من الحرير والقماش والذهب والفضَّة.
ونفّذ مسعود عسكرًا إلى واسط فأخذها، والنُّعمانية فنهبها، فتبِعهم عسكر الخليفة ونُودي: لَا يبقى ببغداد أحد من العسكر، وخرج الراشد فنزل على صرصر، واستشعر بعض العسكر من بعض، فخشي زنكيّ من البازدار والبقش، فعاد إلى ورائه، فرجع أكثر العسكر منهزمين، ودخل الراشد بغداد، وقيل: إن مسعودًا كاتَب زنكيّ سرًّا، وحلف له أنه يُقِرّه على الموصل والشّام، وكاتب الأمراء أيضا فقال: مَن قبض منكم على زنكيّ أو قتله أعطيته بلاده، فعرف زنكي، فأشار على الراشد أن يرحل صُحْبته.
وفي رابع عشر ذي القعدة ركب الخليفة ليلًا وسار، وزنكي قائم ينتظره، -[363]- فدخل دار برنقش، ولم ينم النّاس، وأصبحوا على خوفٍ شديد، وخرج أبو الكرم الوالي يطلب الخليفة فأُسر وحُمِل إلى مسعود، فأطلقه وأكرمه، وسلَّم إليه بغداد، ورحل الراشد يومئذٍ ولم يَصْحبه شيء من آلة السفر، لأنه لما بات في دار برنقش أصبحوا، ودخل خواصه يصلحون له آلة السفر، فرحل على غفلة.
ودخل مسعود بغداد، ونهب دوابَّ الْجُنْد، وجاء صافي الخادم فقال: لم يفعل الخليفة صوابًا بذهابه، والسّلطان له على نيَّة صالحة، وسكن النّاس. وأظهروا العدل، واجتمع القُضاة والكبار عند السّلطان مسعود، وقدحوا في الراشد، وبالغ في ذلك الوزير عليّ بن طِراد، وقيل: بل أخرج السلطان خط الراشد: إني متى جَنَّدْت أو خرجت انعزلت، فشهد العُدول أن هذا خط الخليفة، والقول الأول الأظهر.
ثمّ أحكم ابن طِراد النّوبة، واجتمع بكلٍ من القُضاة والفُقهاء، وخوّفهم وهدّدهم إن لم يخلعوه، وكتب محضرًا فيه: إنّ أبا جعفر ابن المسترشد بدا منه سوء أفعال وسفْك دماء، وفعل ما لَا يجوز أن يكون معه إمامًا، وشهد بذلك الهَيْتِيّ، وابن البيضاوي، ونقيب الطّالبيّين، وابن الرّزّاز، وابن شافع، ورَوْح بن الحُدَيْثيّ، وأُخر، وقالوا: إنّ ابن البيضاويّ شهد مُكْرَهًا، وحكم ابن الكرْخيّ قاضي البلد بخلْعه في سادس عشر ذي القعدة، وأحضروا أبا عبد الله محمد ابن المستظهر بالله، وهو عم المخلوع.
قال سديد الدولة ابن الأنْباريّ: أرسل السّلطان مسعود إلى عمّه السّلطان سَنْجَر: من نُوَلي؟ فكتب إليه: لَا تولّي إلّا من يضمنه الوزير، وصاحب المخزن، وابن الأنباريّ، فاجتمع مسعود بنا، فقال الوزير: نولي الزاهد الدين محمد ابن المستظهر، فقال: وتَضْمَنُه؟ قال: نعم، وكان صهرًا للوزير على بنته، فإنها دخلت يومًا في خلافة المستظهر، فطلب محمد ابن المستظهر هذا من أبيه تزويجها، فزوّجه بها، وبقيت عنده، ثمّ تُوُفّيت.
قلت: فبايعوه، ولُقِّب المقتفي لأمر الله، ولقب بذلك لسبب، قال ابن الجوزي: قرأتُ بخطّ أبي الفَرَج بن الحسين الحدَّاد، قال: حدَّثني من أثق به أنّ المقتفي رأى في منامه قبل أن يُسْتَخْلف بستَّة أيام رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يقول له: " سيصل هذا الأمر إليك، فاقتف بي "، فلُقِّب المقتفي لأمر الله، ثمّ بويع اليوم الثاني البيعة العامة في محفلٍ عظيم، وبعث مسعود بعد أن أظهر العدل، ومهد بغداد، فأخذ جميع ما في دار الخلافة من دوابّ، وأثاث، وذهب، وسُتُور، -[364]- وسُرَادق، ومساند، فلم يترك في إصطبل الخلافة سوى أربعة أفراس، وثمانية أبغال برسم الماء، فيقال: إنهم بايعوا المقتفي على أن لَا يكون عنده خيل ولا آله سَفَر، وأخذوا من الدّار جواري وغلمانًا، ومضت خاتون تستعطف السلطان، فاجتازت بالسوق وبين يديها القراء والأتراك، وكان عندها حظايا الراشد وأولاده، فأطلق لهم القرى والعقار، ثمّ إنّ السّلطان ركب سفينة، ودخل إلى المقتفي، فبايعه يوم عَرَفة، وفي ثاني الأضحى وصلت الأخبار بأنّ الراشد دخل الموصل، وبلغه أنّه خُلِع من الخلافة.
وفي جُمادى الأولى ولي أتابكية جيش دمشق الأمير أمين الدولة كُمُشْتِكين الأتابكي الطُّغتِكيني، واقف الأمينّية، متولّي بُصرى وصَرْخَد، وأُنزل في دار الأتابك بدمشق، وخلع عليه، ثمّ بعد يومين قُتِلَ الأمير يوسف بن فيروز الحاجب في الميدان، وكان من أكبر الأمراء، تملّك مدينة تدْمُر مدَّةً، وكان فيه ظُلْم وشرّ، شدّ عليه الأمير بُزْواش فقتله، ثمّ حُمِل إلى المسجد الّذي بناه فيروز بالعقيبة، فدفن في تربته، وجَرَت أمور، ثمّ صُرِف أمين الدّولة، وولي الأتابكية الأمير بُزْواش المذكور، ولُقِب بجمال الدّين، وتوجّه أمين الدّولة مُغاضبًا إلى ناحية صَرْخَد.
وفيها، في أيّار، جاء بدمشق سيلٌ عظيم لم يُسمع بمثله، وطلعت على البلد سحابة سوداء، بحيث صار الجوّ كالليل، ثمّ طلع بعدها سحابة حمراء، صار النّاظر يظنّها كالنار الموقدة.
وفي شَعْبانها، اجتمعت عساكر حلب مع الأمير سوار نائب حلب، وكبسوا اللاذقيَّة بغتة، فقتلوا وأسروا وغنموا، قال ابن الأثير: كانت الأسرى سبعة آلاف نفس بالصغار والكبار، ومائة ألف رأس من الدواب والمواشي، وخَربوا اللاذقية، وخرجوا إلى شَيْزَر سالمين، وفرح المسلمون بذلك فرحًا عظيمًا، ولم يقدر الفرنج، لعنهم الله، على أخذ الثأر عجزًا ووهنًا، فلله الحمد.