لمّا بلغ السّلطان عصيان صاحب ماردين وصاحب دمشق غضب، وبعث الجيوش لحربهما، فساروا وعليهم برسق صاحب همذان في رمضان من السّنة الماضية، وعدّوا الفُرات في آخر العام، فأخذوا حماه عَنْوَةً ونهبوها، وهي لطُغتِكين، فاستعان بالفرنج فأعانوه. -[20]-
وسار عسكر السّلطان وهم خلْقٌ كثير، فأخذوا كفرطاب من الفرنج واستباحوها، ثمّ ساروا إلى المَعَرَّة، فجاء صاحب أنطاكيّة في خمسمائة فارس وألْفَيْ راجل، فوقع عَلَى أثقال العساكر، وقد تقدّمتهم عَلَى العادة، فنهبوها وقتلوا السّوقيّة والغلمان، وأقبلت العساكر متفرقة، لم يشعروا بشيءٍ، فكان الفرنج يقتلون كلّ مِن وصل، وأقبل بُرْسُق مُقَدَّم العساكر في مائة فارس، فرأى الحال، فصعِد تلّا هناك، والتجأ إليه النّاس وعليهم ذُلّ وانكسار، فأشار عَلَى برسق أخوه بأنّنا ننزل وننجو، فنزل بهم عَلَى حميّة، وساق وراءهم الفرنج نحو فرسخ، ثمّ ردّوا، فتمّموا الغنيمة والأسْر، وأحرقوا كثيرًا مِن النّاس، واشتدّ البلاء، وتبدَّل فرح المسلمين خوفًا وحُزْنًا، لأنّهم رجوا النَّصر مِن عساكر السّلطان، فجاء ما لم يكن في الحساب، وعادت العساكر بأسوأ حال، نعوذ بالله من الخذلان، ومات بُرْسُق، وأخوه زنكي بعد سنة {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا}.
وجالت الفرنج بالشّام، وأخذوا رَفَنية، فساق إليهم طُغتِكين عَلَى غرّة، واستردّ رَفَنيَة، وأسر وقتل.
ثمّ رَأَى المصلحة أن يتلافى أمر السّلطان، فسار بنفسه إلى بغداد بتقادُم وتُحَف للسّلطان وللخليفة، فرأى مِن الإكرام والتّبجيل ما لَا مَزِيد عليه، وشرف بالخلع، وكتب السلطان له منشورًا بإمرة الشّام جميعه، وكان السّلطان هذه السّنة قد قِدم بغداد واجتمع بِهِ طُغتِكين في ذي القعدة.
قَالَ سِبْط الجوزيّ: وفيها صالح بغدوين صاحب القدس الأفضل متولّي الدّيار المصرية، وكان بغدوين صاحب القدس قد سار إلى السبخة المعروفة به ممّا يلي العريش، فأخذ قافلة عظيمة جاءت مِن مصر، فهادنه الأفضل، وأمِن النّاس قليلًا.