فيها جاء الخبر بهلاك أبي يعقوب يوسف بن الحسن الجنابي القُرْمُطيّ صاحب هجر، فأُغلِقَت أسواق الكوفة له ثلاثة أيام، وكان موازرًا لعَضُد الدولة.
وفيها عبر عزّ الدولة إلى الجانب الغربي على جسر عمله ورحل إلى قُطْرَبّل، وتفرّق عنه الديلم، ودخل أوائل أصحاب عضد الدولة بغداد، وخرج الطائع يتلقّاه، وضُربت له القباب المزيَّنة، ودخل البلد. ثم إنّه خرج لقتال عزّ الدولة، فالتقوا، فأخِذ عزّ الدولة أسيرًا، وقتله بعد ذلك.
وخلع الطائع على عَضُد الدولة خلعَ السلطنة وتوجه بتاج مجوهر، وطوقه، وسَوّره، وقلّده سيفًا، وعقد له لواءين بيده، أحدهما مُفضّض على رسم الأمراء، والآخر مُذَهّب على رسم وُلاةِ العهود، ولم يعقد هذا اللواء الثاني لغيرة قبله، ولقّبه تاج المِلّة، وكُتب له عهد بحضرته وقرئ بحضرته، ولم تجر العادة بذلك، إنّما كان يدفع العهد إلى الوُلاة بحضرة أمير المؤمنين، فإذا أخذه قال أمير المؤمنين: هذا عهدي إليك فاعْمل به وبعث إليه الطائع هدايا كثيرة، فبعث هو إلى الطائع تقادُمَ من جملتها خمسون ألف دينار وألف ألف درهم، وخيل، وبغال، ومِسْك، وعنبر.
وفيها زادت دجلة ببغداد حتى بلغت إحدى وعشرين ذراعًا، وكادت بغداد تغرق، وغرقت أماكن.
وفي ذي القعدة زُلْزلَت سيراف، وسقطت البيوت، وهلك أكثر من مائتي إنسان تحتها.
وفيها تمّت عدّة مَصَافّات بين هفتكين وبين العُبَيْديين، قُتل فيها خلق كثير، وطار صيت هفتكين بالشجاعة والإقدام، ولم يكن عنده عسكر كثير. -[189]-
ثم سار إليه الحسن بن أحمد القُرْمُطي وعاضَدَه، وتحالفا، وأعانهما أحداث دمشق، وقصدوا جوهرًا، فتقهقر إلى الرملة وتحصّن بها، ثم تحوّل إلى عسقلان وحاصروه حتى آكل عسكرُهُ الْجِيَفَ، ثم خرج بهم جوهر بذمامٍ أعطاه هفتكين، ومضوا إلى مصر، فتأهب العزيز وسار بجيوشه، فالتقاه هفتكين بالرملة، فقال العزيز لجوهر: أرني هفتكين، فأراه إيّاه وهو يجول بين الصّفّين على فرس أدهم وعليه كذاغند أصفر، يطعن بالرمح تارة ويضرب باللت تارة، فبعث العزيز إليه رسولًا يقول: يا هفتكين أنا العزيز وقد أزعجتني من سرير ملكي، وأحوجتني لمباشرة الحرب بنفسي، وأنا طالب الصلح معك، ولك عهد الله علي أن أصطفيك، وأقدمك على عسكري، وأهب لك الشام بأسره، فنزل وقبّل الأرض. ثم اعتذر وقال: أما الآن فما يمكنني إلّا الحرب، ولو تقدّم هذا لأمكن، ثم حمل على الميسرة فهزمها، فحمل العزيز بنفسه، وحملت معه ميمنته، فانهزم هفتكين، والحسن القُرْمُطي، وقُتل من عسكرهما نحو عشرين ألف، ثم بذل العزيز لمن أتاه بهفتكين مائة ألف دينار.
وكان هفتكين يحب مفرّج بن دغفل بن جَرّاح، وكان مليحًا في العرب، فانهزم نحو الساحل ومعه ثلاثة، وبه جراح، وقد عطش، فصادفه مفرّج في الخيل فأكرمه، وسقاه، وحمله إلى أهله، ثم غدر به وسلّمه إلى العزيز لأجل المال، فبالغ العزيز في إكرامه، وإجلاله، وأعاده إلى رتبة الإمرة مثل ما كان. فحكى القفطي في تاريخه أنّ العزيز أمر له بضرب سرادق، وفرس، وآلات، وبإحضار كل من حصل في أسره من جُنْد هفتكين وحاشيته، فكساهم وأعطاهم، ورتّب كل واحد منهم في منزلته، وركب الجيش لتلقي هفتكين، وسار لإحضاره جوهر القائد، فلم يشكّ هفتكين أنّه مقتول، فلما وصل رأى من الكرامة ما بهره، ثم نزل في بيت المخيّم، فشاهد أصحابه وحاشيته على ما كانوا عليه، فرمى بنفسه إلى الأرض، وعفّر وجهه وبكى بكاء كثيرا، ثم اجتمع به العزيز ووانسه -[190]-، وجعله من أكبر قوّاده، ثم سمّه بَعْدُ ابنُ كِلّس الوزير، فحزن عليه العزيز، فدارى ابن كلس عن نفسه بخمسمائة ألف دينار.