دقيقة بين عناصر الشعر التقليدية وعناصره التجديدية، بحيث يتدافع فيه نياز القديم الموروث دون تعويق لتيار الجديد المستحدث وسيوله الحضارية والاجتماعية والعقلية. وكان تأثير هذه السيول فى أبى نواس أشد عمقا وأكثر حدّة، فتعمّق مذاهب المتكلمين وأسرف على نفسه فى اللهو والمجون. وعكف أبو العتاهية على الحكمة الفارسية والهندية واليونانية عكوفا أفضى به إلى تنويع واسع فى أشعار الزهد والمواعظ والأمثال. وجذب مسلم بن الوليد الشعراء إلى أبنية الشعر المحكمة الشامخة مع التدقيق الشديد فى المعانى والإكثار من ألوان البديع. أما أبو تمام فامتزج الشعر عنده بالفلسفة امتزاجا رائعا، بحيث أصبح معرضا باهرا لطرائف البديع وطرائف المعانى والأخيلة البارعة.
ووراء هؤلاء الأعلام كثيرون كان لكل منهم دور فى تطور الشعر فى العصر تطورا يتفاوت قوة وضعفا، مما دفعنى إلى رسم موجز لشخصياتهم وخصائصهم، ووضعهم فى فصائل متقابلة، والتمست لكل فصيلة صفوة من يمثّلونها، فللسياسة ممثلوها، وكذلك للمديح والهجاء والغزل والمجون والزندقة والزهد والنسك والاعتزال والنزعات الشعبية.
وانتقلت أدرس النثر وما حدث من تطوره وكثرة فنونه بتأثير ما ثقفه الوعّاظ والمتكلمون والكتّاب من كنوز الثقافات والآداب الأجنبية. وقد نشطت الخطابة الدينية وما اتصل بها من وعظ ووعّاظ وقصص وقصّاص. ونفذ المتكلمون إلى فن نثرى مستحدث هو فن المناظرات، ونموّه ورقوا به رقيّا بعيدا. وازدهر النثر الديوانى وكلّ ما اتصل به من رسائل سياسية ومن عهود ووصايا وتوقيعات، وحبّر الكتّاب كثيرا من الرسائل الإخوانية البديعة متناولين فيها الأغراض التى كان ينظم فيها الشعراء والتى تصور عواطف الأفراد ومشاعرهم، ودبّج نفر منهم رسائل أدبية خالصة حلّلوا فيها النفس الإنسانية وأهواءها وسلوكها حينا، وحينا حاكوا قصص كليلة ودمنة قاصدين بمحاكاتهم إلى التربية السياسية والاجتماعية.
وعنيت برسم شخصيات أعلام الكتّاب فى العصر وآثارهم الأدبية، وهم ابن المقفع وسهل بن هرون وأحمد بن يوسف وعمرو بن مسعدة وابن الزيات، فأما ابن المقفع فنقل إلى العربية أروع ما تحمل لغته من ذخائر فارسية وغير فارسية،