واضح الآن أن تاريخ الأدب لأمة من الأمم إما أن يلتزم فيه المؤرخ المعنى العام لكلمة أدب، فيؤرخ للحياة العقلية والشعورية فى الأمة تاريخا عامّا، وإما أن يلتزم المعنى الخاص، فيؤرخ للشعراء والكتّاب تاريخا خاصّا بالأدب ونشأته وتطوره وأهم أعلامه، ولعل أهم من أرخوا لأدبنا بالمعنى الأول بروكلمان فى كتابه «تاريخ الأدب العربى»، ونسج على منواله جرجى زيدان فى كتابه المسمى بتاريخ آداب اللغة العربية. ونراهما يعرضان لتاريخ الحياة الأدبية والعقلية عند العرب فى نشأتها وتطورها مع الترجمة للفلاسفة والعلماء من كل صنف والشعراء والكتاب من كل نوع. ومن غير شك يتقدم بروكلمان جرجى زيدان فى هذا الصدد بسبب المادة الغنية التى يحتويها كتابه، فقد أحصى إحصاء دقيقا أدباء العرب وعلماءهم وفلاسفتهم مع ذكر آثارهم المطبوعة والمخطوطة وما كتب عنهم قديما وحديثا، مبينا مناهجهم ومكانتهم فى الفن أو العلم الذى حذقوه، مع نبذة عن كل فن وعلم ومدى ما حدث له من تطور ورقى.
ومؤرخ الأدب العربى إما أن ينهج هذا النهج الواسع. وإما أن ينهج النهج الثانى الذى أشرنا إليه، فيقف بتاريخه عند الشعراء والكتاب مفصّلا الحديث فى شخصياتهم الأدبية وما أثر فيها من مؤثرات اجتماعية واقتصادية ودينية وسياسية، ومتوسعا فى بيان الاتجاهات والمذاهب الأدبية التى شاعت فى كل عصر. ومن المحقق أن المؤرخ للأدب العربى بمعناه الخاص يأخذ الفرصة كاملة كى يؤرخ لهذا الفرع المونق من فروع الأدب بالمعنى العام، وهو الفرع الذى يراعى فيه الجمال الفنى والتأثير فى ذوق القارئ والسامع وإثارة ما يمكن أن يثار فى نفسيهما من مشاعر وعواطف متباينة. فهو يؤرخ للأدب الخالص تاريخا مفصلا لا يكتفى فيه بالنبذ الموجزة عن الاتجاهات والفنون الأدبية ولا بالتراجم المجملة عن الشعراء والكتاب، على نحو ما يصنع بروكلمان فى تاريخه العام، بل يكتب فى ذلك الفصول الواسعة مطبّقا المناهج الحديثة فى دراسة الأدب الخالص ومن أنتجوه من الأدباء.