ونزل بديارهم اليهود، وحاول الرومان وكنيسة الإسكندرية نشر المسيحية بها وخاصة فى المدن الشمالية واكتسحها الإسلام، ودخل فيه سكانها أفواجا، حتى أصبح دينهم فى كل مكان كما أصبحت العربية لسانهم، وشاع المذهب الإباضى فى جبل نفوسة وطرابلس، وحاول العبيديون -حين أقاموا دولتهم فى القيروان-نشر عقيدتهم الإسماعيلية الشيعية فى ليبيا، ورفضها سكانها، وعلى مر العصور آثرت ليبيا مذهب مالك السنى، وتبع بعض أهلها فى العهد العثمانى المذهب الحنفى غير أن مذهب مالك ظل هو المذهب الغالب على الليبيين. ونرى كثيرين من الليبيين- على مر العصور-يؤثرون الزهد فى متاع الحياة والتقشف طلبا لما عند الله من الثواب ونعيم الفردوس، وشاعت بينهم فى الحقب المتأخرة الطرق الصوفية السنية.
ومنذ الفتح العربى ودخول ليبيا فى الإسلام كان فاتحوها يعملون-بكل ما وسعهم-على نشر الدين الحنيف بها، وسرعان ما شاعت فيها الكتاتيب لتحفيظ القرآن الكريم، كما استدارت فى المساجد حلقات الشيوخ يلقّنون الناس شيئا من تفسير الذكر الحكيم ومن الحديث النبوى وقواعد الفقه وتعاليم الإسلام، وأخذ بعض أبناء ليبيا يطلبون السعة فى الزاد العلمى، فرحلوا إلى المشرق للتزود من حلقات علماء العربية وعلماء الفقه والدراسات الدينية، وعنوا خاصة بالأخذ عن الإمام مالك فقيه المدينة وتلاميذه المصريين. وأخذت تنمو العلوم الإسلامية واللغوية فى ليبيا على مر الزمن وازدهرت فى عهد الدولة الحفصية بما أنشأت من مدارس وما نشأ من زوايا كانت تعنى بدراسة العلوم، وأصاب الحركة العلمية غير قليل من الخمود والركود فى عهد الدولة العثمانية.
وإذا تعقبنا العلوم والعلماء فى ليبيا على مر القرون لاحظنا أنه لم ينشأ فيها نشاط فى علوم الأوائل، بخلاف العلوم اللغوية والدينية فقد اشتهر فيها كثيرون فى مقدمتهم الأجدابي اللغوى فى القرن الخامس الهجرى والمقرئ مؤمن بن فرج فى القرن الخامس الهجرى أيضا والحافظ المحدث الكبير أحمد بن نصر الداودى فى القرن الرابع الهجرى وعلى شاكلته ابن عبيد فى القرن السابع، ويتكاثر الفقهاء السنيون مثل ابن المنمر فى القرن الخامس وعمران بن موسى فى القرن السابع، وبالمثل فقهاء الإباضية، ومنهم عمروس بن فتح النفوسى فى القرن الثالث والجيطالى فى القرن الثامن.
وأسرعت ليبيا فى التعرب لسببين: كثرة من نزل بها من القبائل وكثرة من استقر بها من الجند، وأتمت تعربها هجرة الأعراب الكبرى من بنى سليم وبنى هلال وامتزج الشعبان:
البربرى والأعرابى وأصبحا شعبا واحدا فى الأخلاق والعادات والفروسية والنجدة والزّى والمأكل والأفراح والأحزان، وسرعان ما انتصرت العربية على البربرية. ويشهد الرحالة العبدرى فى أواخر القرن السابع لأهل برقة بالفصاحة ولا تزال لغتهم فى التخاطب إلى اليوم