يروع بحسن اتساقه، فإذا أنت تركت ذلك إلى ما يشتمل عليه هذا الخبر من تربية وجدته يصور إلى أبعد حد الفطنة التى ينبغى أن يتحلى بها الناشئة إزاء إخوتهم ورفقائهم بحيث لا يبدر منهم لهم ما قد يؤذيهم، والخبر بحق يجسّد آداب الأخوّة كما يجسّد التربية الرشيدة للأم وما أروع قول الأم: لقد كنا ننهى الصبى-إذا بلغ العشر وحضر من يستحيى منه-أن لا يبتسم». وهى صحيفة تربوية بديعية فى آداب الأخوة خاصة وآداب السلوك عامة.
كتاب نفيس فى التربية السياسية ترجمة المستشرقون إلى الإنجليزية والإيطالية، وقد استهله ابن ظفر بشكر القائد الصقلى محمد بن أبى القاسم القرشى الذى صنعه له سنة 545 ويقول فى خطبته أو مقدمته إنه عمد فيه إلى أمثلة استأثر خواص الملوك ببضاعتها، ومنعتهم الغيرة عليها من إذاعتها، فتوسع فى التعبير بألفاظه عنها والتفنن بقوى فطنته فيها، وكسا جسومها حلل الآداب الملوكية، وقلّد عواتقها بسيوف المكايد الحربية. فالكتاب إذن ليس رواية عن كتب غيره السابقة، بل هو من تأليفه وصنعه نثرا وشعرا وحكما وأمثالا وقصصا، وهو فيه يكثر من ضرب الأمثال تارة على ألسنة بعض الحيوانات مثل كليلة ودمنة، وتارة على ألسنة شيوخ حكماء ووزراء دهاة من الفرس والعرب، وقد يتوسع بذكر قصص عن ملوك اليونان وبالمثل عن ملوك الفرس. وقد يستطرد من قصة إلى قصة أو من مثل إلى مثل على طريقة كتاب كليلة ودمنة. وإذا كان كتاب أنباء نجباء الأبناء فى السلوك الاجتماعى والخلقى وآدابهما فإن هذا الكتاب فى آداب السياسة وما ينبغى أن يكون عليه الحاكم من الرفق بالرعية والعدل والإنصاف وما ينبغى أن يتخلّى عنه من البغى والطغيان والعسف والظلم. والكتاب موزع على خمس سلوانات: السلوانة الأولى فى التفويض، والثانية فى التأسى، والثالثة فى الصبر، والرابعة فى الرضا، والخامسة فى الزهد. وعادة يبدأ السلوانه بآى من القرآن الكريم وبأحاديث نبوية، ويعلق عليها تعليقات طريفة، ثم يفضى إلى غرضه فى الكتاب من ضرب الأمثلة والقصص الحيوانية والإنسانية تبصرة وعظة للحكام، حتى يتبعوا الصراط السوىّ فى تدبير حكمهم وشئونه مع سياسة الرعية سياسة حكيمة محكمة.
وابن ظفر يذكر فى مستهل سلوانة التفويض لأحكام الله قوله تعالى: {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.} ثم يذكر قصة مؤمن آل فرعون التى وردت فى الذكر الحكيم وكيف أن الله تقدس اسمه وقاه سيئات ما مكروا، ويذكر بعض أسجاع وأبيات حكمية، فمن النثر قوله:
معارضة العليل طبيبه، توجب تعذيبه. . . إنما الكيّس (العاقل) الماهر، من استسلم فى قبضة القاهر-إذا التبست الموارد بالمصادر، ففوّض إلى الواحد القادر.