إنه يرى أنه أعلم بها فيأنف من ملاعبتى، وأنا ألاعبه مخاطرة (قمارا) فقال الفضل: لا أفعل، فقال أبوه: لاعبه وأنا معك، فقال جعفر: رضيت، وأبى الفضل، واستعفى أباه فأعفاه. ثم قالت الأم للسائل: قد حدثتك عنهما فاقض، فقال: قد قضيت لجعفر بالفضل على أخيه، فقالت له:
لو علمت أنك لا تحسن القضاء ما حكّمتك أفلا ترى أن جعفرا قد سقط أربع سقطات تنزّه الفضل عنهن، فسقط حين اعترف على نفسه بأنه يلعب بالشطرنج وكان أبوه صاحب جدّ، وسقط على التزام ملاعبة أخيه وإظهار الشهوة لغلبه والتعرض لغضبه، وسقط فى طلب المقامرة وإظهار الحرص على مال أخيه. والرابعة قاصمة الظهر حين قال أبوه لأخيه: لاعبه وأنا معك، فقال أخوه: لا، وقال هو: نعم، فناصب (عادى) صفّا فيه أبوه وأخوه، فقال السائل [حين سمع منها ذلك] أحسنت والله. ثم قال لها: عزمت عليك أخبرينى هل خفى مثل هذا على جعفر وقد فطن له أخوه، فقالت له: لولا العزمة ما أخبرتك، إن إياهما لما خرج قلت للفضل خالية به:
ما منعك من إدخال السرور على أبيك بملاعبة أخيك؟ فقال أمران: أحدهما لو أنى لاعبته لغلبته فأخجلته، والثانى قول أبى: لاعبه وأنا معك، فما يسرنى أن يكون أبى معى على أخى. ثم خلوت بجعفر فقلت له: يسأل أبوك عن اللعب بالشطرنج فيصمت أخوك وتعترف، وأبوك صاحب جد، فقال: إنّي سمعت أبى يقول: نعم لهو البال المكدود، وقد علم ما نلقاه من كد التعلم والتأدب، ولم آمن أن يكون بلغه أنا نلعب بها، ولا أن يبادر فننكر، فبادرت بالإقرار إشفاقا على نفسى وعليه، وقلت إن كان توبيخ فديته من المواجهة به. فقلت له: يا بنىّ فلم تقول: ألاعبه مخاطرة، كأنك تقامر أخاك وتستكثر ماله؟ فقال: كلا، ولكنه يستحسن الدواة التى وهبها لى أمير المؤمنين (الرشيد) فعرضتها عليه، فأبى قبولها، وطمعت أن يلاعبنى فأخاطره عليها وهو يغلبنى، فتطيب نفسه. فقال لها السائل: ما كانت هذه الدواة؟ فقالت إن جعفرا دخل على أمير المؤمنين، فرأى بين يديه دواة من العقيق الأحمر محلاة بالياقوت الأزرق والأصفر، فرآه ينظر إليها، فوهبها له. ثم قالت: قلت لجعفر: هبك اعتذرت بما سمعت، فما عذرك من الرضا بمغاضبة أبيك حين قال: لاعبه وأنا معك، فقلت أنت: نعم، وقال هو: لا، فقال: عرفت أنه غالبى ولو فتر لعبه لتغالبت له مع ماله من الشرف والسرور بتحيز أبيه إليه. فقال لها السائل مادحا للأخوين ومعجبا: بخ بخ هذه والله السيادة، ثم قال لها: أكان منهما من بلغ الرشد، فقالت له:
يا بنىّ أين يذهب بك؟ ! أخبرك عن صبيّين يلعبان، فتقول أكان منهما من بلغ الرشد، لقد كنا ننهى الصبىّ-إذا بلغ العشر وحضر من يستحيى منه-أن يبتسم».
وهذه الدرة-كما يسميها ابن ظفر-أو هذا الخبر عن الفضل بن يحيى البرمكى وأخيه جعفر بلسان أمهما يصور مدى براعة ابن ظفر الأدبية فى السرد الأسلوبى لأخبار نجباء الأبناء بحيث لا تجد عنده أى غرابة ى لفظة ولا أى التواء فى عبارة، بل تجد أسلوبا مطردا متسقا