حياة التجوال والرعى إلى حياة الاستقرار والزراعة، ويظنّ أنهم أدخلوا إلى منطقة طرابلس زراعة الفواكه مثل الخوخ والتين والبرقوق والكروم، والنباتات التى تنتج الحنّاء والزعفران والشيح، وبعض الأشجار مثل أشجار اللوز وربما أشجار الزيتون أيضا. وبذلك بثوا فى مدن طرابلس نشاطا زراعيا بجانب نشاطهم التجارى. وخلفهم فى المنطقة بالقرن الخامس قبل الميلاد أبناء عمومتهم القرطاجيون، واتسعوا بالضربين من النشاط التجارى والزراعى فى طرابلس. وفى عهدهم أخذت تنظّم الصلة بين مدن الساحل الطرابلسى الثلاث وبين الواحات الداخلية وغدامس وغات وفزان، بل أخذت القوافل التجارية تتغلغل فى قلب إفريقيا وتنقل من تلك الأنحاء الرقيق والعاج وريش النعام، ويظن أن الواحات المذكورة آنفا كانت تستشعر الولاء للقرطاجيين.
وتتوالى الحقب حتى إذا اصطدم القرطاجيون بالرومان وتمت الغلبة للأخيرين استولوا على طرابلس ومدنها من أيدى القرطاجيين سنة 146 قبل الميلاد، وفى عهدهم ازداد ازدهار المدن الطرابلسية الثلاث ووجهوا حملة إلى غدامس وفزان استولت عليهما، واتسعوا بالنشاط التجارى إلى قلب إفريقيا، وأرسلوا لذلك ثلاث حملات استكشافية، أولاها لكشف مناطق طرابلس الجنوبية، والثانية لكشف أو اكتشاف السودان والثالثة لاكتشاف السودان الغربى.
ويبدو أن أسرا رومانية كثيرة استوطنت منطقة طرابلس يدل على ذلك مالا يزال إلى اليوم من كثرة الأطلال لمعابد وحصون وأبراج ومقابر وتماثيل ونصب عليها كتابات لاتينية متأكلة، ولا نلتقى بها فى المدن الكبرى الثلاث: أويا وصبراته ولبدة فحسب. بل نجدها أيضا فى أماكن مختلفة على الساحل مثل ترهونة وفى مواضع مختلفة منها إلى طرابلس وأيضا فى الداخل مثل يفرن فى المنطقة الجبلية الوسطى إذ على برج بها كتابات لاتينية، ومثل بونجيم إذ فى الشمال مبنى رومانى كبير به كتابة لاتينية نقشت عليه سنة 201 للميلاد باسم الإمبراطور الرومانى سبتيموس سيفيروس Septimus Severus وكان قد ولد ونشأ فى مدينة لبدة إحدى المدن الطرابلسية الثلاث المذكورة آنفا، ثم رحل إلى روما ليكمل تعلمه وتطورت به الظروف إلى أن أصبح إمبراطورا للدولة الرومانية، وقد أعفى أهل بلدته الطرابلسية: لبدة من الضرائب الحكومية، وتقديرا منهم لصنيعه كانوا يهدون روما سنويّا كمية وافرة من الزيت، ويقال إنها حين وزّعت على سكان روما بعد وفاته سنة 211 للميلاد كفتهم خمس سنوات. وحين اعتنقت روما المسيحية وعملت على نشرها فى الولايات التابعة لها نشرتها أو حاولت نشرها فى طرابلس لما كان بها من جالية رومانية كبيرة، وتدل على ذلك بعض الكنائس المطمورة فى الأماكن الأثرية الرومانية. وعنيت روما عناية واسعة بازدهار الزراعة فى طرابلس إذ كانت تعدها-كما أشرنا-مخزنها الضخم للغلال ولزيت الزيتون وغير ذلك من الطيبات، وهو ما جعلها تكثر فيها