خاصة إلى رحلة ابن رشيق القيروانى بكتابه العمدة فى صناعة الشعر ونقده إلى صقلية، مما كان له أثر بعيد فى نهضتها الأدبية لعهد الكلبيين وبعدهم، وهاجر إليها كثير من شباب الأندلس وعلمائه للتعلم والتعليم، وبالمثل من علماء المشرق وأدبائه وكتب المشرق ودواوينه. ويقول ابن حوقل إنه كان فى مدينة بلرم وحدها أكثر من مائتى مسجد وثلاثمائة معلم، مما يدل على أنه كان بها نشاط علمى واسع، ومثلها بقية المدن. وكان نحو نصف سكانها المسيحيين فئتين: فئة تتكلم الإغريقية، وفئة تتكلم اللاتينية، وربما كان فى الفئتين من يتقن اللغتين جميعا، وكان فيهما من يتقن العربية، كما كان بين العرب من يتقن اللاتينية أو الإغريقية، وأهّل ذلك للاشتغال بترجمة بعض علوم الأوائل، ويدل على ذلك-من بعض الوجوه-أن الأمير إبراهيم الأغلبى مؤسس بيت الحكمة فى عاصمته رقّادة بجوار القيروان طلب إلى بعض الرهبان الصقليين المتكلمين بالعربية ترجمة بعض المصنفات اللاتينية فى العلوم الرياضية، كما يدل عليه طبيب صقلى يسمى أبا عبد الله كان يتقن الإغريقية ومعرفة أسماء العقاقير والأدوية رحل إلى الأندلس فى زمن عبد الرحمن الناصر (300 - 350 هـ) فضمه إلى من يشتغلون بالترجمة عن الإغريقية إلى العربية كتاب ديوسقيريدس فى الأدوية أو الصيدلة والنباتات، ومما يدل على شهرة صقلية حينئذ بالفلسفة وعلوم الأوائل أن نجد بعض متفلسفة الأندلس يهاجرون إليها. وكان بها علماء رياضيون متعددون ومهندسون كبار بشهادة عماراتها السامقة ومن تتردد أسماؤهم منهم فى الكتب. ورحل إليها غير لغوى من الأندلس ومن أشهر أبنائها ابن البرّ وقد أسس بها مدرسة لغوية خصبة، ومن أهم تلاميذه ابن مكى صاحب كتاب تثقيف اللسان فى أغلاط العلماء وغيرهم، وهاجرت إلى صقلية دواوين كثيرة على يده ويد غيره كما هاجرت إليها كتب لغوية وبلاغية ونقدية كثيرة. ونلتقى بغير مقرئ للذكر الحكيم مثل محمد بن خراسان الصقلى وبغير مفسر مثل ابن ظفر وغير حافظ محدّث مثل عتيق السمنطارى. ويتكاثر بها الفقهاء من قضاة وغير قضاة، ومن أهم فقهائها البراذعي ومحمد بن يونس التميمى وعبد الحق بن محمد القرشى.
وإذا تحولنا مع الثقافة إلى العهد النورمانى وجدنا علوم الأوائل تظل ناشطة فى صقلية ويعنى روجار الأول بترجمة الثقافة العربية ويتكفل بترجمة عيونها إلى اللاتينية القيروانية فى الطب والفلك وغيرهما قسطنطين الإفريقى، واشتهرت صقلية فى هذا العهد بفلكيين ورياضيين ومهندسين كبار من تلامذة الأساتذة فى العهد الإسلامى، وألّف الإدريسى الجغرافى المغربى لروجار الثانى كتابين جغرافيين للعالم كبير وصغير وبهما خرائط جغرافية مهمة، ووضع له خريطة كبرى للعالم على كرة ضخمة من الفضة، وكان حريا بالإدريسى أن يقدم هذه الأعمال الجغرافية الباهرة إلى حاكم عربى لا إلى حاكم نورمانى. وتظل العلوم اللغوية ناشطة فى العهد النورمانى وتسجل كتب التراجم أسماء غير عالم منهم سوى من بارحوا صقلية فرارا من الظلم