من هذا التنكيل البشع، غير أنه من الخطأ ما يقال من أنهما عاملا المسلمين فى صقلية معاملة عادلة سمحة فإن ذلك إن صدق على تعاملهما مع حاشيتهما المسلمة فى بلرم فإنه لا يصدق على معاملتهما العامة للمسلمين فى البلدان الأخرى على نحو ما يصور ذلك ابن جبير فى رحلته حين زار صقلية أيام غليوم الأول. واستحالت المعاملة السيئة إلى عسف لا يطاق حين استولى على الجزيرة أباطرة الألمان منذ سنة 591 هـ/1194 م واستغاث أهلها بالمستنصر الحفصى، فاتفق سنة 647 هـ/1249 م مع فردريك الثانى على إجلائهم إلى إفريقية التونسية، فجلوا عنها جميعا، وأجلى فردريك من كان بمالطة من المسلمين أو بعبارة أدق أجبرهم على الجلاء عنها إلى مدينة أمالفى (صلى الله عليه وسلمmalfi) جنوبى إيطاليا.
وقد عامل المسلمون-طوال حكمهم لصقلية-أهلها المسيحيين معاملة سمحة كريمة أقصى ما تكون السماحة والكرم، فحافظوا لهم على كنائسهم وقوانينهم الدينية والمدنية. وكان بصقلية ثلاث ولايات كبيرة، ولكل ولاية مساعدون للوالى يسمون قوادا، كما كان لها قضاة عدول ومجموعة من الدواوين، من أهمها ديوان المحاسبة، وكانت صقلية تزخر بطيبات كثيرة من الرزق، فكان أهلها يعيشون فى رخاء واسع بفضل زروعها وصناعاتها الكثيرة، وانتقلت إليها صناعة الورق من القيروان ونقلتها عنها أوربا، مما أتاح لغوتنبرج اختراع الطباعة. ونلتقى فى صقلية بنفر من الزهاد أمثال القاضيين ميمون وابن أبى محرز وببعض من لهم ميول صوفية مثل أبى القاسم عبد الرحمن بن محمد البكرى.
وقد فتح النورمان صقلية العربية الإسلامية حربيا وفتحتهم حضاريا، إذ رأوا-هم وملوكهم-سمو العرب المسلمين الحضارى، فحاولوا-بكل ما وسعهم-الإفادة من حضارتهم، ونكّل روجار الأول بالمسلمين تنكيلا شديدا، واضطرته هذه الحضارة أن يدفع ابنه روجار الثانى إلى تعلم العربية والإكباب على ثقافتها وعلومها، وأخذ الرومان يفيدون من نظم المسلمين وتراتيبهم الإدارية فى الجزيرة، واتخذوا لأنفسهم دواوين على شاكلة الدواوين العربية، واندفع غليوم الأول مثل أبيه إلى إتقان العربية ومعرفة علومها ودفع النورمان معه إلى اقتباس العلوم والفنون وعناصر الحضارة الإسلامية فتحضروا بعد أن كانوا متبدين، وانغمسوا فى تلك الحضارة، ومع ذلك ظلوا يقسون على المسلمين ويحاولون بكل ما استطاعوا فتنتهم فى دينهم الحنيف وازداد الظلم والعسف فى عهد أباطرة الألمان، مما اضطر من بقى بصقلية من المسلمين إلى الجلاء عنها نهائيا.
ونقل العرب إلى صقلية الإسلامية ما كان بالقيروان من حركة علمية، فإذا الشباب فيها يكبّ على ما لدى علمائها من علوم دينية ولغوية، ويرحل منهم نفر إلى القيروان والمشرق للتزود من علمائهما، ويرحل إليهم كثير من علماء القيروان لتزويدهم بالعلوم والآداب ونشير