واستطاعت الأندلس فى أثناء هذا النشاط الشعرى الواسع أن تنفذ إلى ابتكار فن شعرى جديد هو فن الموشحات، وحاول بعض المستشرقين الإسبان مثل غرسية غوميس أن يقولوا إنها نشأت من المزج بين الشعر العربى وبين بعض الأغانى الرومانسية فى اللاتينية الإسبانية الشعبية، وليس فى أيديهم أغنية رومانثية واحدة يستطيعون أن يثبتوا عن طريقها هذا المزج. والصحيح-كما أثبتنا بأدلة متعددة-أن الموشحات إنما هى صورة أندلسية تطورت عن أصول مشرقية هى المسمطات، وكان أول من أحدثها عربى هو مقدم بن معافى، وأعطاها صورتها النهائية بعده عربيان هما الرمادى الكندى وعبادة ابن ماء السماء الأنصارى. وعرضنا أو أشرنا إلى طرائف من الموشحات على مر الأزمنة مع الترجمة لثلاثة من الوشاحين البارعين هم ابن عبادة القزاز ويحيى بن بقى وابن زهر، وألممنا بالأزجال وذهبنا مع ابن خلدون إلى أنها نشأت بعد الموشحات مع الاستشهاد ببعض روائعها ومع الترجمة للزجال الفذ ابن قزمان. ثم أخذنا فى دراسة أغراض الشعر دراسة تاريخية نقدية تحليلية تعقبنا فيها كل غرض وأهم شعرائه على مر التاريخ، وبدأنا بشعراء المديح مع نماذج من مدائحهم ومع الترجمة لسبعة من أعلامهم، وصنعنا نفس الصنيع بشعراء الفخر مع الترجمة لثلاثة من أفذاذهم، وبالمثل لشعراء الهجاء مع الترجمة لأربعة من كبار الهجائين، ولأصحاب الشعر التعليمى مع الترجمة لعلمين من أعلامهم.
وعلى نحو ما عرض من روائع الأغراض الشعرية السالفة عرضت روائع الغزل على مر العصور مجسّدة الشأو البعيد الذى بلغته الأندلس فى تلك الروائع، إذ تمثل شعراؤها إلى أقصى حد ما فى الحب العذرى العربى القديم من حنين ملتاع وحب ظامئ لا ينطفئ أواره، مع ما يلاحظ من أن ناظميه يعكسون مشاعرهم على عناصر الطبيعة من حولهم.
وتبادلهم المرأة الأندلسية-مع ما يحفها من عفة ووقار-حبا بحب. ويشترك معهم فى الغزل الفقهاء والفلاسفة هناك، مما أتاح للغزل فى الأندلس سموا بعيدا على نحو ما يتضح عند من ترجمنا لهم وخاصة ابن زيدون وولادة. ونلتقى بشعراء الطبيعة والخمر، وتبلغ الأندلس فى شعر الطبيعة ذروة لعل إقليما عربيا لم يبلغها على مر العصور، وتوضح ذلك غاية التوضيح النصوص والتراجم المختارة وخاصة تراجم ابن مقانا وابن خفاجة وابن سفر. ويلقانا شعراء الرثاء للأفراد وفى مقدمتهم ابن وهبون وتأملاته البديعة فى حقائق الحياة والموت، وشعراء الرثاء للدول الغاربة فى الأندلس وفى مقدمتهم ابن اللبانة وابن عبدون. ونقرأ خواطر بديعة لشعراء الزهد والتصوف، وتتيح الأندلس للتصوف الفلسفى ازدهارا عظيما على نحو ما هو معروف عن متصوفها ابن عربى. وتزدهر فيها