له معهدا موسيقيا تخرج فيه كثيرون، قادوا بالأندلس الحركة الغنائية والموسيقية قيادة بديعة. ولا يقف أثر زرياب عند هذا الجانب، بل يتسع ليشمل الجوانب الحضارية المادية فى المأكل وملبس الجنسين وتزينهما فى الهيئة والمظهر، وأيضا فى اتخاذ الرياش الفاخر. وأخذ عبد الرحمن الأوسط وأبناؤه يعنون ببناء القصور والتأنق فى أثاثها وزينتها، ولا يبنى حفيده الناصر قصرا فحسب بل يبنى مدينة عظيمة هى مدينة الزهراء. ومن يتابع ابن بسام فى وصفه لبعض قصور أمراء الطوائف مثل قصر المكرّم لبنى ذى النون يظن كأنها من قصور ألف ليلة وليلة الخيالية، وما يزال قصر الحمراء بغرناطة إلى اليوم يشهد بما بلغته الحضارة المادية فى المعمار إلى أوج لم تعرفه الأندلس قبل العرب وبعدهم إلى اليوم.
وكان للمرأة فى هذا المجتمع الأندلسى الحضارى مكانة عظيمة جعلتها تحظى من الحرية بما لم تحظ به أختها فى المشرق حتى كان بينهن كاتبات مشهورات للخلفاء الأمويين، وكان بينهن عالمات مقرئات ومحدّثات وطبيبات، وكان بينهن سيدات مجتمع راقيات كصواحب الصالونات بفرنسا فى القرنين السابع عشر والثامن عشر وكان لهن- مثلهن-غير قليل من التأثير فى الحياة الأدبية.
ولم تعرف الأندلس التشيع إلا قليلا وعند أفراد محدودين، وظلت النزعة الأموية تغلب عليها بعد سقوط الدولة الأموية، وعرفت الأندلس الزهد وتألق فيها أسماء زهاد كثيرين، كما عرفت التصوف منذ القرن الرابع الهجرى وأنجبت فيه مشاهير مثل ابن عربى وابن سبعين والششترى.
ولم يكن لإيبيريا دور علمى فى العصور القديمة، والعرب هم الذين بدأوا فيها الحركة العلمية بعلومهم اللغوية والدينية، وعمل عبد الرحمن الأوسط على السعة بهذه الحركة، إذ أدخل عليها بقوة العناية بعلوم الأوائل من رياضة وطب وصيدلة، وجلب كتب تلك العلوم من بغداد. وبلغ الناصر وابنه الحكم المستنصر بالحركة العلمية الغاية المأمولة باستدعاء العلماء من المشرق وإجزال العطاء لهم وجلب المخطوطات النفيسة فى مختلف العلوم والآداب، مما أتاح لدراسة علوم الأوائل الازدهار منذ القرن الرابع الهجرى، مع ما أضاف إليها علماء الأندلس من إضافات باهرة على مر العصور، وتلمع فى الرياضة أسماء مسلمة المجريطى والزرقالى والبطروجى والرّقوطى، وتلمع فى الطب أسماء الزهراوى وبنو زهر وابن رشد، وفى الصيدلة أسماء الغافقى وابن العوام وابن البيطار