على جميع البلدان العربية بما بثّت فيه من لوعات وجد لحب عذرى عفيف ظلت جذوتها تتقد وتتوهج فى أشعار الغزلين الأندلسيين قرونا متوالية، وبلغ من توهج تلك اللوعات أن امتد شررها الساطع إلى الأدبين الإسبانى والفرنسى وبالتالى إلى الآداب الأوربية، ويتضح هذا الشرر-بقوة-عند الإسبان فى قصة دون كيشوت لسرفانتس (1547 - 1616 م) وكأنها قصة محب عذرى عربى فتن بمحبوبته حتى جنّ أو كاد يجنّ، وسرفانتس فى سطورها الأولى ينسبها إلى عربى حدّثه بها، مما يؤكد أنه استلهم فيها أقاصيص الحب العذرى عند الأندلسيين، ونمضى معه فى القصة فنرى الحب العنيف يخرجه دائما عن طوره إذ يعيش هائما على وجهه والجنون يصيبه أحيانا وكلما أفاق منه تغنى بحبه مفتونا بصاحبته مثله الأعلى فى الجمال البارع. ويعم شرر هذا الحب عند شعراء التروبادور الفرنسيين فى القرن الثانى عشر الميلادى. إذ نراهم مفتونين بمحبوباتهم فتنة تدفعهم إلى التذلل لها وتمجيدها لما تستشعره من عفة وجمال مثل قرينتها الأندلسية.
ومما أثّر به الغزل الأندلسى العفيف فى هؤلاء الشعراء ترداد ذكرهم للوشاة والرقباء، وأيضا ظهور القافية فى أشعارهم لأول مرة فى الشعر الأوربى. وللمرأة الأندلسية فى هذا الغزل العفيف الملتاع مشاركة واضحة، وتغزلت أحيانا فى أختها الأندلسية الفاتنة، وكانت لبعضهن ندوات يؤمها بعض الشعراء ورجال الأدب والفكر. وعكس غير شاعر عواطفه فى عناصر الطبيعة من حوله، مدوّنا فى شعره بدقة مشاعره وروعة تصاويره.
وتحوّل الفصل من الغزل إلى الطبيعة والخمر، وينوّه البحث دائما بتفوق الأندلس على البلدان العربية فى شعر الطبيعة، لما كان يتملّى به الشاعر من جمال هذا الفردوس بجناته ورياضه وأزهاره ورياحينه وأنهاره وما يجرى فيها أو يتهادى من زوارق تزدان بالشموع ليلا، وكأن أهل الأندلس كانوا فى عرس دائم ليلا ونهارا. وقد تغنى الشعراء الأندلسيون بجمال هذا الفردوس الأرضى وما يسكب فى النفوس من سحر يروع القلوب والألباب على نحو ما هو معروف عن ابن خفاجة، وتفجؤنا عنده وعند أضرابه من شعراء الطبيعة-بل عند جميع شعراء الأندلس فى كل الأغراض الشعرية-صور فى منتهى الروعة.
وعرض الفصل-بعد ذلك-رثاء الأفراد وما لشعراء الأندلس من فرائد فى التفجع على الأبناء والزوجات والأصدقاء، ويبلغ التأثر بالقارئ منتهاه فى مراثيهم للشهداء الأبرار فى حروب أعدائهم من حملة الصليب الشماليين، ومن أروعها مرثية لابن الزقاق بكى فيها شابّا استشهد فى عنفوان شبابه بعد أن أبلى فى حرب أعداء دينه بلاء عظيما،