وإذا كان العماد قد اختصر الرسالة، واكتفى بمطالعها أو فواتحها، فإننا زدناها اختصارا، وأكبر الظن، أنه قد اتضح جمال الأسلوب فى هذه الرسالة البديعة، فسجعها يطير عن الأفواه بخفته لرشاقة ألفاظه وبدع تصاويره. ويفتن النسر صوت البلبل وجمال تلاحينه، فيتجه إليه مسلما عليه، ويظهر العجب لأنه صغير حقير فى منظره، وله هذا اللحن المطرب، والصوت المعجب، ويصارحه بما فى نفسه، وأنه مع ضخامة جسمه ليست له حلاوة نغماته، فيقول له: «أما علمت أن الأرواح لطائف وهى أشرف من الأجسام، والأجسام كثائف والمعتبر فيها جودة الأفهام، وإنسان العين صغير ويدرك الأكوان والألوان، والإنسان عظيم والمعتبر منه الأصغران: القلب واللسان، ما يكون الدر بقدر الصدف، وشتان ما بينهما فى القيمة والشرف، ولا الآدمىّ كالفيل، وبينهما بون فى التفصيل. . وأما النغمة التى قرع سمعك سوط لذّتها. . فإننى رصّعت شذرها (?) فى عقد ألحانى على نغم بعض الأغانى».

ويذكر البلبل للنسر أنه كوّن ألحانه من احتفال يعقد فى الروضة كل ليلة لملك يأتيها مع ندمائه، إذا ولّى النهار وصبغ الليل ثوب الكون بظلمته وتشعل له الشموع وتصطفّ القيان وصفوف الحور والولدان وترجّع الأنغام والألحان، وينقضى ليلهم فى لهو وسماع وطرب، ومنهم أخذ ألحانه وأنغامه. وعليه إذا أراد أن يكون له صوت حسن أن يحذو حذوه فى الاستماع إلى رنات الغناء فى هذا الحفل العجيب. ويدعو النسر إلى المبيت فى الروض غير أنه ينام، ويضيع منه مراده، ويعاتبه البلبل عتابا مرا قائلا: إن من استلذ المقام، عدم المرام، ووجّه إليه الملام.

وأكثر البلبل على النسر العتاب، فودّعه وطار، وقد عدم الأوطار. ويطيل المهذب فى العظة من هذه القصة وأن بلوغ المراد إنما يكون مع الاجتهاد، وبصدق الطلب يدرك الأرب. ويقول العماد إن المهذب أتم الرسالة بفصل وعظى ليس من شرط كتابه ذكره، وواضح أن وعظها دار حول الجد فى طلب المنى دون مهلة أو ما يشبه المهلة فضلا عن الغفلة وما يشبه الغفلة.

(ج‍) كتاب الاعتبار (?)

مذكرات طريفة لأسامة بن منقذ أحد أبطالنا فى الحروب الصليبية، وقد مرت ترجمته بين الشعراء، والمذكرات أشبه بترجمة شخصية لأسامة، إذ صور فيها ذكرياته عن تربيته الأولى فى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015