والرسالة نفيسة إلى أبعد حد لا لأن أبا العلاء صوّر فيها المحشر والجحيم والنعيم فحسب، بل أيضا لأنه ساق فى حواره مع الشعراء نقدا لغويا وعروضيا ونحويا، مع تعرضه لقضية الانتحال على القدماء، ومع جودة استحسانه لما ساقه من أبيات الشعراء وما ذكر من قصائدهم. وقد عرض فى القسم الثانى للنحل الكثيرة فى زمنه وما فيها من خروج على الدين وإلحاد ومروق، وقد أنحى بذم عنيف على كل المارقين الملحدين، ومع ذلك يقال إنه حمّل الرسالة سخرية من الدين الحنيف، والرسالة من ذلك بريئة كل البراءة.
ولم نعرض لأسلوبه فيها، وهو نفس أسلوبه العام الذى ألفناه، أسلوب يقوم على استخدام الألفاظ المبعدة فى الغرابة، تعبيرا عن ثقافته وعلمه الواسع بالعربية، علما لعل أحدا من أدباء العرب على مر أزمنتهم وعصورهم لم يحظ به، وهو لا يكتفى بالإغراب فى ألفاظ سجعه، بل يضيف إليها كما قلنا فى غير هذا الموضع وشيا من المحسنات البديعية وخاصة الجناس. وقد ذكر فيها أبو العلاء شبل الدولة بن صالح بن مرداس أمير حلب (420 - 429 هـ) مما يؤكد أنه أملى رسالته لعهده فى العقد الثالث من القرن الرابع.
هى رسالة بديعة للمهذب أبى طالب محمد بن حسان الدمشقى، ترجم له العماد الأصبهانى فى خريدته. وقال إنه زاره فى مدرسته العمادية التى كان يدرس بها لطلابه فى ربيع الأول سنة 571 وأنشد بعض أشعاره، ثم قال: ونقلت له من رسالة وسمها «بالنّسر والبلبل» فاختصرتها وأولها. . .» ثم ذكر-فيما يبدو فاتحتها، وهى تصور نسرا شاهد روضا فاتنا خلب لبه، ولم يلبث أن استمع إلى بلبل ملأه غبطة وفتنة، فسأله من أين لك هذا الصوت الساحر وأنا مع أنى ملك الطيور ليس لى شئ من سحره وجماله؟ وأجابه إن الصانع الحكيم لا يهب الأصوات حسب الأجسام.
والرسالة تبدأ بوصف النسر على هذا النمط:
طار طائر عن بعض الشجر، وقد هبّ نسيم السحر، وانفلق عمود الفلق (?) وانخرق قميص الغسق (?) مشهور بالقسر (?)، موسوم بالنّسر، والليل قد شابت ذؤابته (?)، وابيضّت قمته. .