الدواوين العباسية منذ أول القرن الرابع الهجرى، على نحو ما مرّ بنا ذلك فى كتاب العصر العباسى الثانى، وسنراه يدخل عليه ضروبا من الموازنة فى السجعتين المتواليتين، بحيث تصبح هذه الضروب ضرورة أو لازمة فيه. والأساس الثانى لم يكن متبعا قبله، وهو استخدام المحسنات البديعية مع السجع، فالسجع وحده لا يكفى، بل لابد أن تضاف إليه الاستعارة أو الجناس أو الطباق وما إلى ذلك من محسنات البديع وتلاوينه. ونسوق مثالا لذلك من كتاب كتب به عن ركن الدولة بن بويه إلى ابن بلكا عند عصيانه عليه، مفتتحا كتابه بقوله:

«كتابى إليك، وأنا متأرجح بين طمع فيك، ويأس منك، وإقبال عليك، وإعراض عنك، فإنك تدلّ بسابق حرمه، وتمتّ بسالف خدمة، أيسرهما يوجب حقّا ورعاية، ويقتضى محافظة وعناية، ثم تشفعهما بحادث غلول (?) وخيانة، وتتبعهما بآنف (?) خلاف ومعصية، وأدنى ذلك يحبط أعمالك، ويسقط كلّ ما يرعى لك».

وهذه النغمات الأولى فى الكتاب ترينا بوضوح أساس المنهج الذى التزمه ابن العميد فى كتابته، فهو يلتزم السجع، وليس ذلك فحسب، بل هو يوازن بين السجعات، فيجعلها قصيرة تتكون من كلمتين، وإن طالت السجعة الأولى قليلا أطال السجعة الثانية وجعلها موازنة لها أدق موازنة، فسجعة «تدلّ بسابق حرمة» توازنها فى دقة السجعة التالية لها: «تمتّ بسالف خدمة». ومثلهما السجعتان: «ثم تشفعهما بحادث غلول وخيانة، وتتبعهما بآنف خلاف ومعصية». وهو لا يلتزم السجع فحسب، بل يكثر من الطباق مثل «طمع ويأس» و «إقبال وإعراض» كما يكثر من الجناس مثل سابق وسالف، والكتاب زاخر به وبالطباق وبتصاوير كثيرة كقوله فيه معاتبا صاحبه:

«ألم تكن فى ظلّ ظليل، ونسيم عليل، وريح بليل، وهواء عذىّ (?) وماء روىّ، ومهاد وطىّ (لين) وكنّ (?) كنين (?)، ومكان مكين، وحصن حصين».

وكل هذه كنايات واستعارات لما كان فيه هذا العاصى لركن الدولة حين كان يضع يده فى يده، فقد كان فى سعادة ما وراءها سعادة، فإذا كل نعيم كان فيه يتحول بؤسا وشقاء.

وله فصل من رسالة كتب بها إلى عضد الدولة يشيد فيها برعايته للعلم والعلماء قائلا:

«قد يعدّ أهل التحصيل فى أسباب انقراض العلوم وانقباض مددها، وانتقاض مررها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015