ولم يكن حكام الولايات ينفقون على علماء ولايتهم وحدهم، بل كانوا ينفقون أيضا على كل من ينزل بها من العلماء الوافدين الذين قد يقيمون بها شهرا أو أشهرا، ومن طريف ما يروى من ذلك أن الرحلة فى طلب الحديث إلى مصر جمعت بين محمد ابن نصر المروزى آنف الذكر ومحمد بن إسحق بن خزيمة النيسابورى المتوفى سنة 311، ومحمد بن جرير الطبرى المتوفى سنة 310 ومحمد بن هرون الرّويانى المتوفى سنة 307 ولم يبق عندهم ما يقوتهم، فاتفق رأيهم على أن يخرج أحدهم فيسأل لأصحابه الطعام، وإذا هم بالشموع ورسول من قبل والى مصر يدقّ عليهم الباب، وسألهم أين محمد بن نصر فقيل له هو هذا فأخرج صرّة فيها خمسون دينارا فدفعها إليه ثم قال لهم أيكم محمد بن جرير؟ فقالوا هو هذا، فأعطاه صرة فيها خمسون دينارا، وكذلك صنع مع محمد بن إسحق بن خزيمة ومحمد بن هرون الرويانى، ثم قال لهم إن الأمير يقسم عليكم إذا نفدت هذه الدنانير أن تبعثوا إليه أحدكم (?). على أنه يجب أن نعرف أنه كان هناك كثيرون وراء الولاة والوزراء والخلفاء من أعيان الأمة وأثريائها يمدّون العلماء بالمكافآت والأموال الجزيلة بل ربما أمدوا الطلاب تشجيعا وحثّا على طلب العلم، ويروى أن ابن زرعة قاضى دمشق المتوفى سنة 302 كان يهب لمن يحفظ مختصر المزنى فى الفقه الشافعى مائة دينار (?). وكان ابن ماسى ينفذ إلى أبى عمر اللغوى المعروف باسم غلام ثعلب من وقت إلى وقت كفايته (?)، وسنرى فى حديثنا عن علوم الأوائل القناطير المقنطرة من الأموال التى كانت تنفق على الأطباء والمترجمين. ولا بد أن نشير هنا إلى أن نفرا من الفقهاء والمحدّثين وحتى من القضاة كانوا يأبون أن يأخذوا على عملهم وتعليمهم. أجرا، كما مر بناء فى الحديث عن زهاد الأمة أمثال إبراهيم الحربى، وكان كثيرون منهم يعيشون من التجارة أو من الوراقة أو من بعض الحرف الصغيرة.

غير أن الكثرة الغامرة كانت تعيش من رواتب الدولة، وممن وضعوا أنفسهم موضع الحماة للعلوم والآداب من الوزراء والسّراة، وكان كثيرا ما يهديهم العلماء والأدباء آثارهم، فيهدونهم بدورهم كثيرا من أموالهم وخير مثل يصور ذلك الجاحظ، فقد أهدى كتابه «الحيوان» إلى محمد بن عبد الملك الزيات فأعطاه خمسة آلاف

طور بواسطة نورين ميديا © 2015