على نحو ما تولد الشعر الغنائى الرومانسى فى القرن التاسع عشر من الوعظ الدينى الذى شاع بفرنسا فى القرن السابع عشر، فهذا الشعر لم يتطور عن شعر مماثل له، سبقه، وإنما تطور أو تولّد عن فن آخر على نحو ما يتطور أو يتولد كائن عضوى من كائن آخر.

وهذه الموجة الحادة التى اندفع خلالها هؤلاء المؤرخون فى القرن التاسع عشر يريدون أن يلحقوا تاريخ الأدب بالعلوم الطبيعية ويطبقوا عليه قواعدها لم تلبث أن هدأت فى أوائل هذا القرن العشرين بتأثير نمو العلوم الإنسانية، فإن هذه العلوم أثبتت أن عالم الإنسان يخضع لقوانين أعمق من القوانين الطبيعية وأن تاريخ الأدب ينبغى أن لا يلحق بالعلوم الطبيعية وإنما يلحق بالدراسات الإنسانية مثل التاريخ والقانون والسياسة وعلمى الاجتماع والنفس. وسرعان ما أخذ مؤرخو الأدب ونقاده يطبقون على الأدب نظريات اللاشعور الفردى وعقد الجنس ومكتوباته واللاشعور الجماعى ورواسب الحياة الإنسانية البدائية التى تتجلى فى الأساطير وما يتصل بها والعلاقات الاجتماعية والإنتاجية.

وسنحاول أن نؤرخ فى أجزاء هذا الكتاب للأدب العربى بمعناه الخاص مفيدين من هذه المناهج المختلفة فى دراسة الأدب وأعلامه وآثار فنقف عند الجنس والوسط الزمانى والمكانى الذى نشأ فيه الأدب، ولكن دون أن نبطل فكرة الشخصية الأدبية والمواهب الذاتية التى فسح لها سانت بيف فى دراساته. وكذلك لن نبطل نظرية تطور النوع الأدبى، فما من شك فى أن الأنواع الأدبية تتطور من عصر إلى عصر، وقد يتولد بعضها من بعض فيظهر نوع أدبى جديد لا سابقة له فى الظاهر، ولكن إذا تعمقنا فى الدرس وجدناه قد نشأ من نوع آخر مغاير له، على نحو ما يلاحظ ذلك من يدرس فن المقامة فى العصر العباسى، فإنها فى رأينا تولدت من فن الأرجوزة وما ابتغى به أصحابه فى العصر الأموى عند رؤبة ونظرائه من تعليم الناشئة والموالى ألفاظ اللغة العربية الغربية وتراكيبها العويصة. فاقتران هذه الغاية بالأرجوزة يلفتنا إلى نفس الغاية فى المقامة عند بديع الزمان والحريرى وما بين الفنين من صلات وروابط. ولا بد أن نستضئ فى أثناء ذلك بدراسات النفسيين والاجتماعيين وما تلقى من أضواء على الأدباء وآثارهم. وبجانب ذلك لا بد أن نقف

طور بواسطة نورين ميديا © 2015