يسوقها الرواة نفيًا لدليل ثابت ولا إثباتًا لحجة مقتضية، فهي بعيدة بطبيعتها عن اختلاق الشعر؛ ثم جهدنا أن نثبت تاريخ أقدم تلك الأيام؛ ولا سبيل إلى ذلك إلا بقرينة الأعلام التي ترد فيها، فرأينا في أخبار يوم الرحرحان أن زهير بن جذيمة بن رواحة سيد قيس بن عيلان تزوج إليه النعمان بن امرئ القيس ملك الحيرة، ولزهير هذا شعر جيد، فحسبنا شعره قبل في أوائل القرن الخامس للميلاد؛ لأن النعمان بن امرئ القيس توفي سنة 431هـ، ولكنا رأينا في أخبار داحس والغبراء أن عنترة بن شداد رثى مالك بن قيس المعروف بقيس الرأي, وهو ابن زهير الذي ذكرناه، وقالوا إنه أنشد أباه وقومه القصيدة؛ وعنترة توفي في القرن السابع للميلاد. فلم نظفر مع هذا الخلط بشيء.
وروى الجاحظ في كتاب "الحيوان" عن الهيثم وابن الكلبي وأبي عبيدة، أن كل أمة تعتمد في استبقاء مآثرها وتحصين مناقبها على ضرب من الضروب وشكل من الأشكال، وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون والكلام المقفى وهو ديوانها..... قال: ثم إن العرب أحبت أن تشارك العجم في البناء وتنفرد بالشعر فبنوا غمدان وكعبة نجران إلخ.
وذلك يدل على أن العرب اقتصروا في تخليد مآثرهم على الشعر أولًا ثم شاركوا العجم في تخليدها بالبناء، ولكن الهمداني وياقوت ذكرا أن الذي بنى غمدان، هو لِيَشَرح بن يحصب، وهو من ملوك حمير، كان حوالي تاريخ الميلاد، وقد بقي غمدان إلى زمن عثمان بن عفان وهو الذي هدمه "ج1: الحيوان"، ووقف الهمداني على بقاياه في القرن الرابع للهجرة. وعلى ذلك يكون الشعر العربي فخر حمير من قبل الميلاد، ويقول الجاحظ: إذا استظهرنا الشعر وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام؛ وهذا هو الذي نذهب إليه.
وقد ترجح لدينا أن سبب هذا الخلط في كلام الرواة، غفلتهم عن تاريخ الوقائع المعروفة، وجهلهم بما أثبته الفرس والروم في تواريخهم عن ملوك العرب التابعين لهم من المناذرة والغسانيين؛ فابن قتيبة يقول في طبقاته عن زهير بن جناب: إنه جاهلي قديم، ثم يقول: ولما قدمت الحبشة تريد هدم الكعبة بعثه ملكهم إلى أرض العراق ليدعو من هناك إلى طاعته. وإنما كانت حادثة الحبشة في القرن السادس للميلاد، ونسب ابن قتيبة لزهير هذا البيت المشهور:
من كل ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحيه
وهذا البيت نسبه غيره للجيم بن صعب، وعده صاحب "المزهر" في قدماء الشعراء؛ وكل ما وقفنا عليه من أقوالهم في قدم الشعر يمكننا أن نورده أمثلة على ذلك الخلط، وقد بالغ بعضهم فعد آباء القبائل في الشعراء، كربيعة ومضر، وكمنبه -أبي باهلة- وغني، والطفاوة، وغيرهم من الأسماء التي لا دليل عليها من خبر أو زمان وكل ما فيها تسلسل النسب وقدم العهد.
تحقيق هذه الأولية:
والذي عندنا أن أولية الشعر العربي لا ترتفع عن مائتي سنة قبل الهجرة، ولا يذهب عنك أنا لا نريد بالشعر التصورات والمعاني، فهذه فطرية في الإنسان، ولا بد أن تكون قد استقلت طريقتها في العرب من أقدم أزمانهم إلى ما وراء ألفي سنة قبل الميلاد، وكذلك لا نريد بالشعر مطلق ما اصطلحوا