الباب الخامس: تاريخ الشعر العربي ومذاهبه

الأقوال في أولية الشعر العربي

...

يا معين *

الأقوال في أولية الشعر العربي:

إذا ذهبنا نتتبع الشعر العربي إلى أوليته، رأينا لدينا من أحوال الجاهلية تاريخًا سقيم التركيب متفكك الأجزاء مضطرب الجهات، لا يكشف منه التعب ولا يبلغ فيه النصب؛ وإذا كان ما ورد في كتب اليونان والروم عن جزيرة العرب، وما كشفوه من الآثار في هذا العهد، مما يستأنس به في تاريخ بعض أحوال الجاهلية، فليس للشعر من مثل ذلك شيء؛ لأنه لا يعني غير أهله، وهم عرب أميون، ولم يكن للشعر في جاهليتهم الأولى ما كان له من الشأن في جاهليتهم الأخيرة؛ نعرف ذلك من تتبع أحوالهم الاجتماعية كما سنشير إليه.

وقد تصفحنا التواريخ العربية وراجعنا ما نقلوه عن أهل الرواية وهم مصدر آداب الجاهلية وأخبارها، فرأينا أن ما كتبوه من ذلك إذا صلح أن ينقل فهو لا يصلح أن يعقل، وهذا المسعودي يروي في "مروج الذهب" أشعارًا عربية للقبائل البائدة: كعاد وثمود وطسم وجديس، وهي روايات لا يقيدها بتاريخ ولا يحدها بزمن؛ فيمكن على ذلك أن تدخل في غمار المفتريات والأقاصيص.

ولكنا رأيناه يذكر ممن كان في الفترة، أسعد أبا كرب الحميري أول من كسا الكعبة الأنطاع والبرود، قال: وكان مؤمنًا، وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة، ثم استدل على ذلك بشعر نسبه إليه، وهذا منتهى العجب "ص32 ج1: مروج الذهب".

ويقول الجاحظ في كتاب " البيان" عن هذه القبائل: وقد ذكرت العرب هذه الأمم البائدة والقرون السالفة، ولبعضهم بقايا قليلة وهم أشلاء في العرب متفرقون مغمورون مثل: جرهم وجاسم ووبار وعملاق وأميم وطسم وجديس ولقمان والهس ماس وبني الناصور، وقيل بن عثر** وذي جدن، ويقال في بني الناصور أن أصلهم من الروم.

فجعل لهذه القبائل بقايا مغمورين في العرب, ولعل ذلك كان مستفيضًا بين الرواة ليرجحوا به صحة ما نقلوه، إذ الخلف مستودع أخبار السلف؛ ولكنهم إنما أثبتوا هذه البقايا لما جاء في القرآن عن ثمود من قوله تعالى: {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} وقوله: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} فأخذوا من ذلك أن غير ثمود لهم بقية في العرب، وغفلوا عما يعطيه لفظ الآية ويدل عليه السياق.

وقد بالغنا في تتبع أخبار الوقائع والأيام التي ورد فيها للعرب شعر؛ لأن مثل هذه الوقائع لا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015