بيد أن أول كتاب وضع لشرح الإعجاز وبسط القول فيه على طريقتهم في التأليف، إنما هو فيما نعلم كتاب "إعجاز القرآن" لأبي عبد الله محمد بن يزيد الواسطي المتوفى سنة 306هـ، وهو كتاب شرحه عبد القاهر الجرجاني شرحًا كبيرًا سماه "المعتضد"، وشرحًا آخر أصغر منه. ولا نظن الواسطي بنى إلا على ما ابتدأه الجاحظ، كما بنى عبد القاهر في "دلائل الإعجاز" على الواسطي، ثم وضع أبو عيسى الرماني المتوفى سنة 382هـ كتابه في الإعجاز، فرفع بذلك درجة ثالثة، وجاء القاضي أبو بكر الباقلاني المتوفى سنة 403هـ فوضع كتابه المشهور "إعجاز القرآن" الذي أجمع المتأخرون من بعده على أنه باب في الإعجاز على حدة1، والغريب أنه لم يذكر فيه كتاب الواسطي ولا كتاب الرماني، ولا كتاب الخطابي الذي كان يعاصره، وسنشير إليه، وأومأ إلى كتاب الجاحظ بكلمتين لا خير فيهما، فكأنه هو ابتدأ بالتأليف في الإعجاز بما بسط في كتابه واتسع، وفي ذلك ما يثبت لنا أن عهد هذا التأليف لا يرد في نشأته إلى غير الجاحظ.
على أن كتاب الباقلاني وإن كان فيه الجيد الكثير، وكان الرجل قد هذبه وصفاه وتصنع له، إلا أنه لم يملك فيه بادرة عابها هو من غيره، ولم يتحاش وجهًا من التأليف لم يرضه من سواه، وخرج كتابه كما قال هو في كتاب الجاحظ: "لم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى". فإن مرجع الإعجاز فيه إلى الكلام، وإلى شيء من المعارضة البيانية بين جنس وجنس من القوم، ونوع آخر من فنونه، وقد حشر إليه أمثلة من كل قبيل من النظم والنثر، ذهبت بأكثره وغمرت جملته، وعدها في محاسنه وهي من عيوبه.
وكان الباقلاني -رحمه الله وأثابه- واسع الحيلة في العبارة؛ مبسوط اللسان إلى مدى بعيد، يذهب في ذلك مذهب الجاحظ ومذهب مقلده ابن العميد2، على بصر وتمكن وحسن تصرف، فجاء كتابه وكأنه في غير ما وضع له، لما فيه من الإغراق في الحشد، والمبالغة في الاستعانة، والاستراحة