قد رأيت أن أقوال الأولين في إعجاز القرآن وأدلتهم عليه مما لا يحتمل البسط والاتساع إلى ما تفرد له الكتب وتوضع فيه الدواوين. وتلك آراء كانوا يتواردون في المناظرة عليها ويتجارون الكلام في تصويبها والاحتجاج له في مجامع سمرهم وحلقات دروسهم، إذ كان الناس إجماعًا على القول بالإعجاز والمشايعة فيه وكانت الكلمة لا تزال متخلفة فيهم عن العرب، فهم على علم مذكور من أوليتهم وسلفهم الذين أعزهم القرآن الكريم، وعلى عيان حاضر من فصحاء البادية الذين يختلفون إليهم، ومن أهل العربية وطائفة الرواة1 وهذا كله مما يتسند إليه الطبع وإن كان طبع العامة الذين فسدت لغتهم والتوت ألسنتهم.
ومر الناس على ذلك إلى أوائل المائة الثالثة، فلما فشت مقالة بعض المعتزلة بأن فصاحة القرآن غير معجزة؛ وخيف أن يلتبس ذلك على العامة بالتقليد أو العادة، وعلى الحشوة من أهل الكلام الذين لا رسوخ لهم في اللغة ولا سليقة لهم في الفصاحة ولا عرق لهم في البيان، مست الحاجة إلى بسط القول في فنون من فصاحته ونظمه ووجه تأليف الكلام فيه، فصنف أديبنا الجاحظ المتوفى سنة 255هـ كتابه "نظم القرآن" وهو فيما ارتقى إليه بحثنا أول كتاب أفرد لبعض القول في الإعجاز أو فيما يهيئ القول به، وقد غض منه الباقلاني بقوله: إنه لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون قبله؛ ولم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى "أي: الإبانة عن وجه المعجزة" وذهب عن الباقلاني -رحمه الله- أن ما دعا الجاحظ إلى وضع كتابه في أوائل القرن الثالث، غير الذي دعاه هو إلى التصنيف في أواخر القرن الرابع، فلم يحاول، الجاحظ أكثر من توكيد القول في الفصاحة والكشف عنها على ما بقي بالابتداء في هذا المعنى، إذ كان هو الذي ابتدأ التأليف فيه ولم تكن علوم البلاغة قد وضعت بعد2.