"أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز" لإثبات ذلك بطريقة فنية، وقواعد علمية، وصنف بعض العلماء كتبًا خاصة فيه اشتهر منها كتاب "إعجاز القرآن" للقاضي أبي بكر الباقلاني شيخ النظار والمتكلمين في عصره؛ لأنه طبع مرتين أو أكثر، فإن كان ذلك قد وفى بحاجة الأزمنة التي صنعت فيها تلك الكتب فهو لا يفي بحاجة هذا الزمان، إذ هي داعية إلى قول أجمع وبيان أوسع، وبرهان أنصع في أسلوب أجذب للقلب، وأخلب للب, وأصغى للأسماع، وأدنى إلى الإقناع.
استوى إلى هذا وانتدب له الأديب الأروع، والشاعر الناثر المبدع، صاحب الذوق الرقيق، والفهم الدقيق، الغواص على جواهر المعاني الضارب على أوتار مثالثها والمثاني، صديقنا الأستاذ "مصطفى صادق الرافعي" فصنف في إعجاز القرآن سفرًا لا كالأسفار، أتى فيه -وهو الأخير زمانه- بما لم تأت به الأوائل، فكان مصدقًا للمثل السائر "كم ترك الأول للآخر", ناهيك بمنثور لآلئه في نظم القرآن العجيب، وأسلوبه المباين لجميع الأساليب, فلا هو مرسل طلق العنان كالنوق المراسيل، يتعاصى على ترسل التجويد ونغمات الترتيل، ولا هو مسجوع كسجع الكهان، ولا شعر تلتزم فيه القوافي والأوزان. ومن آياته القصار ذات الكلمة المفردة والكلمتين والكلمات، والوسطى المؤلفة من جمل مثنى وثلاث ورباع، الطولى منها لا تتجاوز سطورها جمع القلة، وأطولها آية الدين، فقد تجاوزت مائة كلمة، وكل نوع يؤدى بالترتيل اللائق به، المعين على تدبره.
وإني على شهادتي للرافعي بأنه جاء في هذا المقام بما تجلت به مباين الإعجاز ومواضحه وأضاءت لوائح الحق فيه وملامحه، وددت لو مد هذا البحث مد الأديم، بل أمد بحيرات نيله بجداول الغيث العميم، فعم فيضانه الفروق بين نظم الآيات في طولها وقصرها، وقوافيها وفواصلها، ومناسبة كل منها لمواضيع الكلام، واختلاف تأثيره في القلوب والأحلام1.
كلفني المصنف -أيد الله به اللغة والدين- أن أكتب ثلاث صفحات أو أربعًا أعرض بها كتابه هذا على القارئين، وأنى لي بإيجاز الكتاب المنزل، ولا سيما قصار سور المفصل، فأعد في هذه الصفحات عناوين أبوابه وفصوله، دع ما فيها من غرر مباحثه وحجوله، إذ لست أملك من الاستجابة له فوق ما تقدم إلا أن أنصح لقراء العربية عامة والمسلمين خاصة ولطلاب العلم منهم على الأخص: بأن يقرءوا هذا الكتاب، بغية الاستعانة على النبوغ في بلاغة لغتهم، والتفقه في كتاب الله تعالى، وتعرف الشيء الكثير من أسرار إعجازه، مما لا يجدونه في غيره.
قال شيخنا الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى: "إن لكلام الله تعالى أسلوبًا خاصا يعرفه أهله ومن امتزج القرآن بلحمه ودمه، وأما الذين لا يعرفون منه إلا مفردات الألفاظ وصور الجمل فأولئك عنه مبعدون".
وقال أيضًا: "فهم كتاب الله تعالى يأتي بمعرفة ذوق اللغة، وذلك بممارسة الكلام البليغ منها".