المحاكمة إلى الأعراب:

وكان العلماء إذا اختلف ما بينهم في المناظرة وادعى كل منهم الفَلَجَ والظهور بالحجة والدليل، رجعوا في الحكم إلى منطق الأعراب ممن يصيبونهم من الفصحاء على أبواب الأمراء أو في المساجد أو في طرق السابلة.

ولم تكن المحاكمة إليهم مقصورة على القياس وما يحتاج إلى المنطق الصحيح في التعيين صحته فحسب ولكنها كانت تكون أيضًا في معاني الألفاظ وما يدخله التصحيف، وخاصة أسماء الأمكنة والبقاع وما يجري مجراها من هذه الجوامد التي يعرفها الرواة عن سماع ويعرفها الأعراب عن يقين وعيان.

قال أحمد بن يحيى: لقيني أبو محلم على باب أحمد بن سعيد بن مسلم ومعه أعرابي، فقال: جئتكم بهذا الأعرابي لتعرفوا منه كذب الأصمعي؛ أليس كان يقول في قوله:

زوراء تنفر عن حياض الديلم

ن الديلم الأعداء؟ فاسألوا هذا الأعرابي؛ فسألناه فقال: هي حياض بالغور قد أوردتها إبلي غير مرة. والأمثلة من هذا كثيرة.

وأشهر ما عرف من محاكماتهم إلى الأعراب، المسألة الزنبورية التي اختلفت فيها سيبويه البصري والكسائي الكوفي1 بحضرة الرشيد، وقيل إنها كانت بين سيبويه والفراء بحضرة الرشيد، أو بحضرة يحيى بن خالد البرمكي؛ وذلك أن سيبويه قدم إلى بغداد، وكان الكسائي يعلم الأمين، وهو يومئذ رأس الكوفيين؛ فوفد سيبويه على يحيى بن خالد وابنيه جعفر والفضل، وعرض عليهم ما يذهب إليه من مناظرة الكسائي؛ فسعوا له في ذلك وأوصلوه إلى الرشيد، فكان فيما سأله الكسائي: كيف تقول: ظننت أن العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا هو هي، أو: إياها؟

فقال سيبويه: فإذا هو هي؛ وأجاز الكسائي القولين: بالرفع والنصب "لأن نصب الخبر المعرفة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015