ونحوها، فأطلقت على كل ذلك، ونزلت منزلة الحقائق العرفية بالإصلاح؛ وهذا هو الدور الثالث في تاريخها اللغوي، وهو أصل الدلالة التاريخية فيها.

وقال ابن خلدون في حد الأدب: "هذا العلم لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الملكة، من شعر عالي الطبقة، وسجع متساو في الإجادة، ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب ليفهم به ما يقع في أشعارهم منها، وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة، والأخبار العامة. والمقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه ... ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف. ا. هـ.

فهذا كما ترى ثبت لما قررناه؛ لأن كل ما عدوه من موضوع الأدب إنما هو مادة الرواية، وعلى ذلك يستحيل أن يكون معنى الأدب الاصطلاحي جاهليا، ولا أن يكون من مصطلحات القرن الأول؛ لأن الكلمة لم تجئ في شيء من شعر المخضرمين ولا المحدثين، وقد كانوا أهلها ومورثيها من بعدهم لو أنها اتصلت بهم أو كانت منهم بسبب. والعجب أنك تجد لهم القوافي الطويلة على الباء وقد استوعبوا فيها الألفاظ، إلا مادة الأدب ومشتقاتها، مع أنه ليس أخف منها عند المتأخرين ولا أعذب ولا أطرب ولا أعجب، والسبب في ذلك ما ذكرناه وما نذكره.

بلى، قد روى صاحب "العقد الفريد" في باب الأدب من كتابه كلمة أسندها لعبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وهي قوله: "كفاك من علم الدين "أن تعلم"1 ما لا يسع جهله، وكفاك من علم الأدب أن تروي الشاهد والمثل"، ومقتضى ذلك أن "علم الأدب" كان بالغًا من الإتساع في عهد ابن عباس حتى صار أقل ما لا يسع جهله منه رواية الشاهد والمثل للقرآن والعربية، وهو نهاية الغرابة والشذوذ؛ لأن ابن عباس توفي فيما بين سنة 68 و74هـ، على اختلاف أقوال المؤرخين، ولم يكن يومئذ بالتحقيق ما يصح أن يسمى علم الأدب.

وقد تناقل المتأخرون هذه الرواية عن العقد الفريد دون أن ينتبهوا لما فيها من فساد الدلالة التاريخية، ولكن الصحيح أن الكلمة لمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس، كما أسندها إليه الجاحظ في كتاب البيان. ومحمد هذا هو أصل الدولة العباسية؛ لأنه أبو السفاح أول الخلفاء العباسيين، وتوفي سنة 125 وقيل 126هـ، ومما يرجح فساد تلك النسبة إلى ابن عباس، قول عمرو بن دينار فيه: ما رأيت مجلسًا كان أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس: الحلال والحرام والعربية والأنساب والشعر. ولو كان لفظ الأدب معروفًا يومئذ لاجتزأ به وطوى فيه الثلاث؛ فالكلمة إذن من موضوعات القرن الثاني، أي: بعد أن بلغت الدولة الأموية مبلغها من المجد العربي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015