...
تمهيد:
الفصل الأول: الأدب.
الأدب: تاريخ الكلمة.
تقلبت هذه اللفظة في العربية على ثلاثة أدوار لغوية، تتبع ثلاث حالات من أحوال التاريخ الاجتماعي؛ فهي لم تكن معروفة في الجاهلية وصدر الإسلام إلا بما يؤخذ من معناها النفسي الذي ينطوي فيه وزن الأخلاق وتقويم الطباع والمناسبة بين أجزاء النفس في استوائها على الجملة، وكل ما هو من هذا الباب؛ ومنه الحديث الشريف: $"أدبني ربي فأحسن تأديبي". ولعل ذلك كان توسعًا منهم في أصل مدلول الكلمة الطبيعي، على ما هو معروف من أمرهم في اشتقاق اللغة وانتزاع بعضها من بعض؛ فإنهم يقولون: أدب القوم يأدبهم أدبًا، إذا دعاهم إلى طعام يتخذه. والقوم أهل بادية مقفرة تأكل فيها الشمس حتى ظلها، وتشرب نسيمها وطلها، فإذا هلك فيها الزاد هلك حامله، وإذا لم يدفع عن نفسه بأسلحة فمه فالجوع قاتله؛ ولذلك تمدحوا من أقدم أزمنتهم بالقرى وعدوه من أعظم مفاخرهم؛ لأنه شريعة الطبيعة التي أدبتهم هذا الأدب، بل هو شعرها في أخلاقهم، إذ ارتقى بعد ذلك بارتقاء الشعر حتى تخرقوا فيه، كما يؤثر عن كرمائهم وأجوادهم مما استوعبته كتب المحاضرات.
فلما كان هذا الخلق مظهر الخيم الصالح فيهم، وحقيقة الأدب الطبيعي منهم، وأرقى معاني الإنسانية عندهم؛ لأنه ليس وراء إمساك الحياة على الحي غاية، توسعوا فيه بمقدار ما بلغوا من رقي الآداب، وجعلوه تعريفًا نفسيا كما مر؛ ولا بد أن يكون ذلك بعد أن ارتقوا في اجتماعهم، واشتبكت العلائق بينهم، حتى أخذت الفطرة الطبيعية تمتزج في أكثرهم بما يخالطها من صنعة الاجتماع، وكان ذلك سببًا في انتباههم في هذا الوضع؛ لأن الأدب على اختلاف معانيه إنما هو رد النفس إلى حدود مصطلح عليها اصطلاحًا وراثيا.
ثم لما جاء الإسلام ووضعت أصول الآداب، واجتمعوا على أن الدين أخلاق يتخلق بها، فشت الكلمة، حتى إذا نشأت طبقة المعلمين لعهد الدولة الأموية كما سيجيء، أطلق على بعض هؤلاء لفظ المؤدبين، وكان هذا الإطلاق توسعًا ثانيًا في مدلول "الأدب" لأنه اكتسب معنى علميا إذ صار أثرًا من آثار التعليم.
ثم استفاضت الكلمة وكانت مادة التعليم الأدبي قائمة بالرواية من الخبر والنسب والشعر واللغة