بوأنا الله تعالى منزلة الكرامة، بزيارة هذا النبي الكريم، وأحلنا من فضله في جواره دار المقامة، انه ذو الفضل العظيم بمنه وكرمه، ثم رحلنا من المدينة المنورة الشريفة، في يوم الخميس الرابع والعشرين من ذي الحجة المذكورة وهو غد يوم دخولنا ووصولنا، وسرنا مع الركب المصري على عادتنا من وصل السري وحث المطى وأنا أجد نسيم طيبة المكيبة أعبق من العنبر الذكي وأفتق من المسك النقي، وأحلى على قلبي الصادي من المورد العذب الشهي.
ولفخر الرؤساء الرضى الموسوي.
أيها الرائح المجد تحمل ... حاجة للمتيم المشتاق
وأقرعني السلام أهل المصلى ... وبلاغ السلام بعض التلاقي
وإذا ما مررت بالخيف فاشهد ... أن قلبي إليه بالأشواق
وأبك عنى فطالما كنت من ... قبل أعير الدموع للعشاق
ضاع قلبي فأنشده لي بين جمع ... ومنى عند بعض تلك الحداق
إلى أن وصلنا إلى الينبوع في عشى يوم السبت السادس والعشرين لذي الحجة المذكورة وصلناها بعد مسح الجبين، والانحفار المبين فحللنا منها ببلد أثير، ذي نخل كثير، وماء غزير، عذب نمير، وخرجنا منها ضحوة يوم الاثنين الثامن والعشرين لذي الحجة المذكور وسرنا والغيظ يشتد حره، والهجير يلتظي جمره، إلى أن وردنا ماء العقبة الكبرى على ساحل البحر وهي التي تسمى عقبة أيلة يجتمع عندها الناس من الشام ومصر وغيرهما للقاء الركبان، والسؤال عن الأحباب والإخوان،
عارضا بي ركب الحجاز أسائ ... هـ متى عهده بأيام جمع
واستملأ حديث من سكن الخيف ... ولا تكتباه إلا بدمعي
فاتني أن أرى الديار بطرفي ... فلعلي أرى الديار بسمعي
وصلنا إليها في ضحى يوم الخميس السادس عشر لشهر الله المحرم مفتتح عام ثمانية وثلاثين وسبعمائة ثم تقسمت الركبان فبعض انقلب إلى الديار المصرية وبعض ذهب إلى البلاد الشامية:
ألا بلغ الله الحمى من يريده ... وبلغ أكناف اللوى من يريدها
فكنت ممن آثر زيارة تلك البقاع السامية الكريمة، واستخار الله تعالى فاختار له أفضل الغنيمة، ورحلنا من العقبة في ليلة يوم السبت الثامن عشر من شهر الله المحرم المذكور، فأول ماء لقيناه بعد العقبة المذكورة ماء غضيان ثم ماء الغمر ثم ماء التجان ثم سرنا فأتينا عقبة الصفا، وقد اشتدت جمرة القيظ، والنفوس من جواز تلك العقبة الكئود تكاد تميز من الغيظ. وما زلنا نسير فيشتد حر الشمس، ويشبه اليوم الأمس، إلى أن وصلنا إلى مدينة الخليل عليه السلام فدخلناها عند العصر من اليوم الخميس الثالث والعشرين لشهر الله المحرم المذكور، فاستراحت الأبدان وتلاقى الأخوان، وتفرق الركب، وتألف الصحب واجتمع كل بخليله ونسيبه، وأخذ من سماط أبيه الخليل عليه السلام بسهمه ونصيبه، فقضينا ما تعين من الزيارة ووجب من السلام، لقيت من امكن من أولئك الفضلاء الأعلام، وخرجت منها في عشى يوم الجمعة من غد اليوم المذكور، وسرنا والعشى قد طفل، وعطفه في الثب القصير قد رفل، والشمس قد خجلت من فراق الحاضرين، صفراء فاقع لونها تسر الناظرين، فوصلنا إلى مدينة القدس الشريف في صبيحة يوم السبت الخامس والعشرين من شهر الله المحرم المذكور، وبها اجتمعت بأخي محمد حيث تركته بعدما جال في أطراف بلاد الشام، وكاد يبلغ مدينة السلام. فتلاقينا بتحية الإخوان إذا التقيا بعد البين، وحظينا بعد الأثر بالعين، فكان بذلك لنوم عيني سبيل وعهدي بالنوم عهد طويل، وأقمنا بالقدس الشريف الكريم ملتمسين البركة في ذلك الحرم العظيم إلى أن خرجت منه بالرغم، وتزودت بالغم ملتفتا إلى تلك الربوع ومكفكفا واكف الدموع فنبت عنه مرتحلا، وفيه أنشأت عاجلا وأنشدت مرتجلا:
خليلي في ربع الخليل مني نفسي ... وفيك فؤاد أنت يا حرم القدس
أحن إلى تلقاء هذا صبابة ... وألمح من هذا سنى البدر والشمس
مواطن لو أنصفتها جئت زائرا ... إليها على العينين والخد والرأس
ولو أنني أعطي مرادي بينها ... لما رحلت من دونها أبدا عنسي
وكيف رحيلي عن معاهد لم تزل ... على الحل والترحال لي غاية الأنس
أروح وأغدو بينها شيقا لها ... وأصبح فيها مستهاما كما أمسى
بلاد خليل الله والمسجد الذي ... صلاة به في الأجر كالمائة الخمس