وأمسح عن أرجل اليعملات ... بأجفان عيني ذلك الغبارا
واهدي على القرب مني السلام ... وحسبي بها رتبة وافتخارا
وأكتب شوقي بماء الدموع ... بسطا إذا اللفظ كان اختصارا
وأفدي بما طال من مدتي ... بطيبة تلك الليالي القصارا
ترى هل أناجي هناك الرسول ... جهارا كما نرتجي أم سرارا
وأعلم أني على بابه ... وقفت قبلت ذاك الجدارا
وماذا أقول وكل الورى ... نشاوي هنالك مثلي حيارى
وأنشد يا شافع المذنبين ... أجر من باب حماك استجارا
أقلني فقد جئت أشكو الذنوب ... إليك وأنت تقيل العثارا
فكن شافعي يوم لا شافع ... سواك يفك العناة الأسارى
فمالي سوى حق هذا الجوار ... إليك ومثلك يرعى الجوارا
وأني قطعت إليك القفار ... فقيرا أقل ذنوبا غزارا
وفي قطعها لك فضل على ... ولو خضت دون القفار البحارا
ولو أستطيع قطعت الزمان ... وأنت المنى حجة واعتمارا
وما كنت أظعن إلا إليك ... إذا ما ملكت لروحي اختيارا
حمى حل فيه نبي الهدى ... فأضحى به أشرف الأرض دارا
فيا فوز من كل عام أتاه ... ويا فوت من غاب عنه خسارا
شممنا الشذا من مبادي الحجاز ... فخلنا العبير أعار العرارا
فواها لها نفحة أذكرت ... هواي وأذكت بقلبي الشرارا
إذا خطرت في الربا سحرة ... وجرت ذيولا على الغار غارا
يمانية رابها إنها ... بطيبة مرت وجرت أزرا
على من سرت من حماة السلام ... وحيا الحيا ذلك الربع دارا
ووصلنا إلى المدينة النبوية الكريمة بقلوب مسرورة بالوصال، محزونة بما تتوقعه بعد ذلك من قرب الارتحال:
ما يقتل الليل الطويل سهرا ... غير محب خائف أن يهجرا
فدخلناها عشية يوم الأربعاء الثالث والعشرين من ذي الحجة من العام المذكور، واليوم قد ولى شبابه، والمساء قد استحكمت أسبابه:
والشمس تجنح للغروب مريضة ... والليل نحو مغيبها يتطلع
ولما حططنا بها رحال الإمام، وخلعنا على عطف الصلاة برد الإتمام تسارعنا إلى الروضة الشريفة المقدسة تسارع الطير إلى الأوكار، وتسابقنا تسابق الخواطر مع الأفكار، وكنا ظننا أن الدموع نفدت، وأن نيران القلوب خمدت، فتراكمت من العيون سحبها، وتزايد من القلوب لهبها، وأخذنا بعد السلام في شرح ما فعلت الأشواق وإن كانت الإحاطة بوصفها تكليف ما لا يطاق، وجرى الأمر كما سلف من خلوات معهودة، وقلوب ببرد لمغفرة معمودة، وبتنا نطفئ نيران الأشواق بماء العبرات وننادي رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمام الحجرة لا من وراء الحجرات:
ولما وقفنا للسلام تبادرت ... دموعي إلى أن كدت في الدمع أغرق
فقلت لعيني هل مع الوصل عبرة ... فقالت ألسنا بعده نتفرق
ولما تحقق السير عن ذلك الحما، وأشأم حاد كان بالأمس أتهما، أجريت الدموع وحرمت الهجوع، وأضرمت بنيران الزفرات الأكباد والضلوع، وانقطع بي الرجاء، وضاقت على الأرجاء:
قالوا الرحيل وما تملت باللقا ... عيني ولا امتلأت بغير مدامع
فتيقنت روحي بأن مقالهم ... أن يصدق الحادي أشد مصارعي
ووقفت بين تأمل وتململ ... يبدو السرور على فؤادي الجازع
حيران لا أدري بقرب رائق ... أذري المدامع أم لبعد رائع
وودعنا الروضة المشرفة المكرمة، والتربة المقدسة المعظمة، فياله وداعا ذابت له الأجساد والتهبت به الأكباد، وكاد يتصدع الجماد وما ظنك بموقف يناجي بالتوديع فيه سيد المرسلين وخاتم النبيين ورسول رب العالمين، وخيرة خلق الله أجمعين، وأنه لموقف تنزع فيه الأرواح انتزاعاً، وترى الخلق من هوله صراعا كل يقاسي مرارة مذاقه ويبوح لديه بأشواقه، لا يجد بدا من فراقه، فوا أسفاه وا أسفاه. ما أصبر قلبي على هذا الوداع وأجفاه:
عجبا لقلبي يوم راعتنا النوى ... ودنا وداعك كيف لم يتفطر