وذكرني عصر الشباب وطيبه ... وعيشا تحلينا مليا بغضه
وعهدا شددنا عقده بيد الوفا ... فلا بطشت كف تمد لنقضه
فيا ساري البرق الذي ضاعف الأسى ... على دنف ما زال يشقى بنضه
أعندك من أهل العقيق رسالة ... أقارضك عن إبلاغها خير قرضه
وإلا فبلغهم تحية موجع ... يعاني الذي ينهد رضوى لبعضه
وجرد على واديهم ذيل ديمة ... تنمنم بالأزهار صفحة أرضه
حنيني إلى الوادي لأجل جوارهم ... مجاورة المخفوض تعدى بخفضه
ثم زرت تربة ولي الله تعالى ابن مدين مرة أولى وثانية، وأقمت بالمحلة أياما ثمانية، وكان خروجي منها ورحيلي عنها في صبيحة يوم السبت، الموفى عشرين جمادى الأولى المذكور، ولم نزل نقطع مهامه قفار، ونجوز في أودية وبحار، ونشاهد من الأرض والسماء كل نهر سائل وغيم مدرار، إلى أن وردنا) مدينة الجزائر (، في آخر يوم الخميس الثاني لجمادى الثانية من العام المذكور والليل قد غول، والنهار قد تحول، والقلب لا يصبو إلا لأول منزل، ولا يحن إلا إلى الحبيب الأول، ولما طرزت طرة الظلام يد إلا صباح، وأرسل الفجر في رداء السحر خيط الصباح أسرعنا مبادرين، وبادرنا مسرعين، وتفرقنا في سكك المدينة أجمعين، فرأيت محيا صبيحا وتربا مليحا ومسجدا عتيقا، وبناء أنيقا، وأناسا قد سلكوا إلى الحسن والإحسان طريقا، من مدينة أقسمت بعلو هضابها إلا بفوز مبسم الثريا برشف رضابها، فلا ترتقيها إلا الظنون، وكأنها ضب ومن يطمع فيها نون، قد أحاط بها البحر إحاطة السوار بالزناد فألبس ذلك الجسم روح المجد، وركب خلائق الوهد على ذلك النجد، فأقمنا بها نحكم في حزن الأنس وسهله، حكم الصبي على أهله، حتى قرب أمد الرحيل، وغلب واجبه على المستحيل، فعزمت على الخروج، وسرت على بياض ذلك الساحل وخضرة تلك المروج.
يا بياضا أدرى دموعي حتى ... عاد منها سواد عيني عقيقا
وخرجنا في صبيحة يوم الاثنين السادس لجمادى الثانية المذكورة فدخلنا في أمر عظيم، وطريق غير مستقيم، وعذاب يوم عظيم، نصعد على التهائم ونغور في النجود ونسلك كل مخدع لم يكن بالمألوف ولا بالعهود. ولا كان مسلكا إلا للذئاب واللصوص والأسود، إلى شعراء بالخوف مشعرة، وأرض خالية مقفرة، وجبال منخرقة في الجو وعرة، تقطع الأسباب، وتخلع الألباب، وتذكر الصراط والميزان والحساب، وأظن الخطابي إياها عنى بقوله:
سلكت عقابا في طريقي كأنها ... صياصي ديوك أو أكف عقاب
وما ذاك إلا أن ذنبي أحاط بي ... فكان عقابي في سلوك عقاب