فحللت منها المحل المودود، وحللت بها المشدود والمعقود، وجددت بعلمائها العهود، وأقمت الازم منها معهدا مألوفا، ومشهدا بالحبائب محفوفا، إلى أن تهيأ غراب دار الصنعة، وتيسر اندفاعه في يوم الجمعة، فجددت الوداع، وشاع خبر الجواز وذاع، وفارقت من فارقت لا عن ملالة، وودعت من ودعت لا عن تعويض، وركبت فيه بباب الديوان في يوم الأحد، السابع لجمادى الأولى من العام المذكور ثم وقفت ماشيا على الماء وقفة المتسلم، وودعت الأندلس وداع المتأمل المتألم، وأنشدت:
خليلي هذا موقف من متيم ... فعوجا قليلا وانظراه يسلم
وسرنا في أطيب هواء، واحسن استواء، إلى أن وافينا) مرسى هنين (فنزلنا بها ضحوة يوم الثلاثاء، التاسع لجمادى الأولى المذكور، فرأيت بليدة نضيرة، لا كبيرة ولا صغيرة، جميلة المنظر، متوسطة بين الصغر والكبر، موضوعة أسفل جبلين، بين بحر وشجر، يخفضها ارتفاع قلعة، دار صنعة، وأسواق موفورة، ومساجد معمورة، ولقربها من الأندلس هي مذكورة، لقيت بها الخطيب، أبا عبد الله بن جابر، فجبر الوحشة بالإيناس وأنشدني لبعض الناس:
أبشر بخير عاجل ... تنسى به ما قد مضى
فرب أمر مسخط ... لك في عواقبه الرضى
ثم خرجت منها صبيحة يوم الخميس، الحادي عشر لجمادى الأولى المذكورة وسرنا نلتهم الأرض التهام الضمير نرتبط بالجد ارتباط الفعل بالضمير، إلى أو وافينا مدينة) تلمسان (، فحللنا به ضحوة يوم الجمعة، الثاني عشر من الشهر المذكور، فرأيت مدينة قل مثلها، وجل عرارها وبانها واثلها، بطاح وادواح، وربى ملاح، وضياء وانشراح، وبسيط له اتساع وانفساح، ومياه لها على در الحصا انسحاب وانسياح، وروضات يعتري ويعترض إليها اهتزاز وارتياح، وجنات ريقها ندى وثغورها اقاح، فسيحة الأرجاء، صحيحة الهواء، ممتدة الغاية في الحسن والانتهاء، جوها صقيل، مجتلاها جميل، ونشرها أريج النفس عليل.
وأرض من الحصباء بيضاء قد جرت ... جداول ماء فوقها تتفجر
كما سبحت تبغي النجاة أراقم ... على روضة فيها الأقاح منور
وكم للعباد من أطراد مذانبها واخضرار جوانبها، من نفحات رحمة، وبيضاء تربى على كل مستحمة، تحييك بالوجه الوسيم، وترى الغصن يصلى بتحيات النسيم، فنزلت منها بالمحلة المنصورة، الحاضرة للمدينة المذكورة، محلة السلطان العادل، الهمام الباسل، ملك الإسلام والمسلمين وناصر الدنيا والدين، أبى الحسن بن السلطان الفاضل الغمام الهاطل، أمير المسلمين، نخبة الملوك والسلاطين، أبى سعيد العابد، المرابط المجاهد أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، أبى يوسف يعقوب بن عبد الحق المرينى، أيدهم الله تعالى وأسعدهم، فما حططنا الركاب، ولا وضعنا الاقتاب إلا والشمس يتبين زوالها، وطهارة المكتوبة يتعين استعمالها فأمطنا وعثاء السفر، وأخذنا في غسل الجمعة بالأثر، ثم تمتعنا بالخطبة والخطيب، بعد أن أخذنا بحظ وافر من الطيب، والعود الرطيب، وند ما له ند، تعاطيه من السنة، إذا أدخلته النار حكى رائحة الجنة، وجلنا في المحلة، وهي روض يثمر خيلا وأعنة، وبحر يزخر قنا وأسنة، وذوائب الأعلام تخفق، وألسنة عذباتها تكاد بالنصر تنطق، والأحوال قد استقامت، والأخبية على القاعدين فيها قد قامت، وهي مبيضة كسقيط الثلج، مصطفة كبيوت الشطرنج، وقد أشرق الجو بإشراق الخمائل والنبات وأشرف على مدينة أحدقت بها الأزهار والأنهار من جميع الجهات، فأقمنا هنالك درر الأنباء، ونحتلب در النعماء، وأنا امرح في جهاتها، مرح العين في منتزهاتها، حتى تمتعت في ذلك الجمع الحافل، بلقاء جماعة من الأفاضل، وأنشدني بعضهم لبعض أهلها وهو الكاتب أبو بكر بن الخطاب، رحمه الله تعالى، وهو مع سائر نظمه عندي بالإجازة عن الشيخ الخطيب المحدث الحاج الفاضل أبى عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن عمر بن رشيد الفهري رحمه الله، قال أنشدنا شيخنا الكاتب الأديب البليغ أبو بكر بن خطاب بتلمسان لنفسه:
سرى البدر فارتاع الفؤاد لومضه ... فبت وجفني لم يذق طعم غمضه
تبدى كعرق في الغمامة نابض ... يدل على سقمي تواتر نبضه
سجدت له لما تراءى يمانيا ... وأكملت من دمعي طهوري لفرضه
وقضيت من حق الصبابة واجبا ... برئت من العشاق ان لم أقضه